خليل صويلح
منذ أن أسند إليه هيثم حقي كتابة الموسيقى التصويرية لعمله التلفزيوني «الثريا» (1996)، وجد طاهر مامللي فضاءه التعبيري في تشريح الشحنة الدرامية إلى ثيمات موسيقيّة تؤطّر مسالك الحدث، من خلال نوتة تضبط إيقاع العمل ومفاصله، وتضعه في مقام آخر.لم تعد الموسيقى التصويرية إذاً، مجرد ضربات إيقاعية تنبئ بتطور درامي ما، بل باتت نصاً موازياً، له حضوره المؤثر في ذهن المتلقّي. شارة العمل التي تحمل توقيع هذا المؤلف الموسيقي، باتت اليوم ركناً أساسياً في عناصر العمل الدرامي، وتعويضاً عن غياب الأغنية السورية. هذه الأغنية التي فقدت موقعها منذ عقود بغياب شركات الإنتاج من جهة، وضياع قوانين حماية المصنفات الفنية في كواليس وزارة الثقافة من جهةٍ ثانية.
في هذه الفسحة، وجد طاهر مامللي تطلعاته الجمالية في صوغ أغنية سورية جديدة، ستبقى حيّةً بمعزل عن العمل الدرامي، وخصوصاً أن معظم شارات الأعمال، تتكئ على نصوصٍ شعرية لافتة، وعلى أصوات لم تجد فرصتها الكاملة في التعبير عن حضورها. هكذا تعرّفنا إلى صوت المغنية الأوبرالية لبانة قنطار في شارة «الثريا»، وصوت ديمة أورشو في «بقعة ضوء»... فيما أدت أصالة قصيدة محمود درويش «أيها العابرون لن تمرّوا» في مسلسل «صلاح الدين» للمخرج حاتم علي. وسوف تترسخ في الذاكرة قصيدة إبراهيم طوقان «صامت لو تكلما/ لفظ النار والدما» في شارة «التغريبة الفلسطينية»، إحدى أبرز المحطات الموسيقية التي أنجزها طاهر مامللي في مسيرته.
يبرر الموسيقي السوري الشاب غزارة حضوره كمؤلف موسيقي في الأعمال الدرامية بغياب فرص العمل الأخرى. ويضيف إنّ هذا النمط من التأليف يدخل في صلب مشروعه الموسيقي. ذلك أن المقطوعات الموسيقية التي ألّفها في هذا الإطار، سرعان ما وجدت لها مكاناً خارج العمل الدرامي: لقد قدمها في حفلات موسيقية مستقلة، بمشاركة أصوات غنائية سورية، وجمعها في أكثر من أسطوانة. لقاؤه الموسيقار الراحل صلحي الوادي، كان منعطفاً حاسماً في حياته المهنية. كان الشاب الذي تربّى في بيئة حلبية موسيقية، قد قرر الهجرة إلى أوروبا، لدراسة الموسيقى الغربية. بعد سنة من الدراسة في لندن، عاد إلى دمشق، والتحق بالمعهد العالي للموسيقى. في أروقة المعهد، اكتشف رحابة الموسيقى الشرقية «كانت لدي قناعة راسخة بأن الموسيقى الشرقية لا تتمتع بأي أهمية مقارنةً بمثيلتها الغربية، لكنني اكتشفت فضاءً واسعاً للنغم الشرقي».
اختار طاهر دراسة الكمان، قبل أن ينفتح على إمكانات الآلات الشرقية بمقاماتها الموسيقية المتعددة. لم يخض مجال التلحين خارج مقترحات العمل الدرامي، لكنه واجه تحدياً صعباً: «بثلاث دقائق، ينبغي اختزال مناخات ثلاثين ساعة درامية» يقول. يؤخذ على موسيقاه أنها متشابهة في ثيماتها الإيقاعية، لكن مامللي ينفي هذه التهمة: «هناك مسافة واضحة في بناء جملة موسيقية لعمل تاريخي وآخر كوميدي، سواء في نوعية الآلات المستعملة، أو في بنية العمل ككل». ويضيف شارحاً رؤيته: «لا يعقل أن أستعمل البيانو في عمل تاريخي، مثل «الزير سالم»، فيما أجد في البزق آلة أساسية في عمل من نوع «ضيعة ضايعة». عندي طبعاً أسلوبي الخاص، وبصمتي الشخصية، لكن الأمر لا علاقة له بالتكرار».
في الواقع، أسهم منجز هذا الموسيقي في إنجاح أعمال تلفزيونية كثيرة، انطلاقاً من الشارة التي هي مفتاح أساسي في تواصل المشاهد مع العمل. يتذكّر الجمهور جيّداً شارة «سحابة صيف»، أو «زهرة النرجس»، أو «الدوّامة». هناك منطقة موسيقية محسوسة، تترك أثرها طويلاً كفعل يؤجّج حضور الصورة في خطوط بيانية مؤثرة. يقرأ مامللي النص الدرامي قبل تصويره، ثم يكتب تصوّراته، بناءً على بيئة العمل. في «صقر قريش»، أدخل آلات شرقية قديمة، في صياغات جديدة للموشّح الأندلسي. أما في «التغريبة الفلسطينية» فقد اعتمد الأهزوجة الفلسطينية، على خلفية تراجيدية، في تكثيف المأساة. فيما نجد في «ضيعة ضايعة»، تنويعات على الموسيقى التراثية في الساحل السوري، مكان الحدث. هكذا يمتزج البعد الموسيقي بالبعد الحكائي في إنتاج سرد خلّاق.
على أهمية الزمن في إنجاز نص موسيقي متكامل، فإنّ حمّى الدراما، لا تسمح بالتأمل الطويل. يتذكّر مامللي أنّه أنجز موسيقى «الدوامة» خلال ساعات، بعدما تخلّف موسيقي آخر عن وعده بإنجازها في الوقت المحدد، وإذا بها تحصد جائزة أفضل موسيقى تصويرية في مهرجان الإذاعة والتلفزيون في القاهرة. ويشير هذا الموسيقي الدؤوب والمثابر إلى أهمية الموسيقى التصويرية في انتشال الذائقة التي تغوص اليوم في «مستنقع لا يميّز بين شكسبير وهمام حوت». لذلك، لا بد من التأسيس لذائقة مضادة من أجل رفع سوية المادة السمعية في الفنون المرئية.
يحلم طاهر مامللي بأن تشهد سوريا فورة موسيقية وغنائية توازي تلك التي تشهدها الدراما اليوم، عن طريق شركات إنتاج كبرى، تستقطب الأصوات المحليّة التي انحسرت إلى الظل، وعشرات الموسيقيين الذين اتجهوا إلى مهنٍ أخرى للعيش. ويتساءل بحسرة «أين عازف العود عبد الرحيم صيادي، وأين راجي سركيس، وديمة أورشو وآخرون؟». في اشتغالاتٍ لاحقة، سنلاحظ نبرة أوبرالية في بعض الشارات، أو آهات تتسرب بين الجمل الموسيقية. يقول طاهر مامللي «سعيت إلى كسر ما هو اعتيادي في الموسيقى التصويرية، وإدخال الصوت في صلب الصورة كوجهة نظر في المعنى الدلالي للمشهد». يستدرك قائلاً «لم أكن وحدي في هذا المجال، فنحن كمؤلفين موسيقيين نعمل مثل ورشة، أقصد رعد خلف، وسعد الحسيني، وسمير كويفاتي، ورضوان نصري، وآخرين، فعلى أكتاف هؤلاء، نهضت الدراما السمعية عبر صياغات جمالية متباينة». هذه النجاحات التي حقّقها موسيقيّونا الشباب، في فترة قصيرة نسبياً، لا يعدّها، نهاية المطاف، في مشروعه الأكاديمي، بل لبنة أولى في استعادة هوية الأغنية السورية الغائبة، وربما المغيّبة.
ويتساءل مامللي أخيراً: «لماذا لا تشتهر الأصوات السورية إلا خارج الحدود؟ مع العلم أن الساحة تزخر بعشرات الأصوات الأصيلة». يصمت قليلاً، ثم يضيف: «لا أريد أن أذكر عشرات الطيور المهاجرة من الموسيقيين، وبعضهم يعمل اليوم نادلاً في مقهى».


5 تواريخ

1966
الولادة في حلب لأسرة موسيقية

1990
الانتساب إلى المعهد العالي للموسيقى
في دمشق

1996
تأليف الموسيقى التصويرية لمسلسل «الثريا» للمخرج هيثم حقي

2009
جائزة أفضل موسيقى تصويرية من مهرجان الإذاعة والتلفزيون في القاهرة عن مسلسل «الدوّامة»

2010
كتابة الموسيقى التصويرية لمسلسلي «كليوباترا»، و«لعنة الطين»