قاسم محمد يوسفكيف لي أن أسكت، أن أصم أذنيّ وأحجب عينيّ... أن ألعق ما بقي من ذاكرتي وأحفر لروحي قبراً يتماهى في غياهب الظلام لتتعالى في أروقته جلبة أشبه بعويل ريح عتيّة، فيجتاحني الفزع الأكبر وأرقد في سباتي مكبّلاً بسلاسل حرب تدور رحاها بين أعضائي.
كيف لي أن أسكت، وأنا الطفل الغزاوي المذبوح بسكين العرب؟ أنا الطفل الغزاوي الذي نزف دماً ليغسل العار عن شرف العرب. أنا الطفل الذي ترك حاضنة كتبه وفرشاة أسنانه وحديقة لُعبه، مفترشاً الأرض ملتحفاً السماء حافي القدمين، يتأبّط حجراً ويهاجم مدرّعة ليسقط شهيداً يصون بدمه كرامة العرب... فأين العرب؟
كيف لي أن أسكت، أنا الطفل الغزاوي الذي بات خبزه حبوب الطيور وضياؤه سراج الزيت، ومصر «أمّنا» تغلق المعابر وتُطبق الحصار علينا. كيف لي أن أسكت وأشلائي مبعثرة في شوارع غزة ودمائي تميل في أحياء غزة وأخي الرضيع يئن جوعاً ومرضاً ولا طعام في صدر أمي ولا كهرباء ولا دواء في غزة.
كيف لي أن أسكت وأمي طريحة الأرض تولول أبناءها الشهداء، وأبي مقطّب الجبين والحزن يعتصر فؤاده، وأختي، سرق الدهر كل فرحتها، والهمّ يعتلي محيّاها، فقد ضاع صباها دونما طفولة بريئة أو مراهقة جريئة أو حياة هنيئة، وأخي... كوفية فلسطين تزين رأسه والسلاح يصرخ بين قبضتيه والإيمان يشع نوراً في عينيه يطلب رضى والديه، يقبّل أيديهم، ويرحل للجهاد عنه وعنا وعن كل العرب...
غداً سيلقى الله شهيداً، فماذا سيقول عنكم أيها العرب؟ أيقول إنكم أطبقتم الحصار على غزة وكنتم شركاء حقيقيين في إبادة شعب بكامله، أم أنكم منعتم الدواء والغذاء والغاز من الدخول إلى غزة؟ أم يقول لربه كيف منعتم حجاج بيت الله الحرام من الخروج لأداء فريضة الحج؟
ماذا أقول وماذا يقول وهل بربكم ما زال الكلام قادراً على وصف حال العرب؟
أنا الطفل الذي يبكي جراحاً تنادي الآه في فلسطين، أنا الطفل الذي يبكي لا جوعاً ولا وجعاً إنما يبكي العرب، يبكي مصر جمال عبد الناصر وجماهير عبد الناصر وجيش عبد الناصر وحلم عبد الناصر وعروبة عبد الناصر. لست أبكي من ضعفي وهواني، فأنا الطفل الذي سقط من رحم أمه بطلاً وشهيداً وأولى كلماتي فلسطين، أنا الطفل الذي ولد كبيراً في دوره وهمه ليحمل حجراً منذ نعومة أظفاره يدافع به عن فلسطين. أنا الطفل الذي اعتاد أن ينزف دماً عندما يناديني صوت فلسطين.
كيف لي أن أسكت وتهدأ فرائصي وفي كل يوم يتجاسر الكون على انتهاك أحلامي وبعثرة أيامي، وطعنات العرب لجسدي الصغير أضحت يوماً تلو الآخر أكثر إيلاماً وأشد مأساة، وسوادهم الأعظم ينظرون إليّ عبر شاشات تلفازهم أعاني المرض والجوع وجسدي ينزف دماً ولا يحرك المشهد في نفوسهم شيئاً. فقد أصبح من الطبيعي أن ينزف الغزاويون عن كل العرب...
كيف لي أن أسكت وأسامح وأغض النظر عن «أشقائي» العرب، لكنه قدري أعفو دوماً وأصفح دائماً وأسأل الله لهم الهداية لعلّه يُخرج من أصلابهم من يرفع الحصار عن غزة وعن كل العرب...