مهى زراقط
عيترون... أنت الآن هناك. أين؟ قرب البيت المدمّر.
نكتة غير مضحكة في بلدة شهدت مجزرتين ودمّرت كلّ بيوتها. أنت الآن في عيترون، ويمكنك أن تحدد أين. إنك قرب ذلك الجندي الاسرائيلي الواقف في حقل التبغ... حين تقع عيناك في عينيه يمكنك تمييز تعابير الذعر المرتسمة فيهما. تعترف أنك بدورك فوجئت برؤيته، تحرّك شيء في قلبك. ربما كان انقباضاً أو وقوعاً له... لكنك تستعيد قلبك إلى صدرك عندما ترى حركة يدي الجندي المرتجفتين على زناد سلاحه.
كان يفترض بالثياب العسكرية الخضراء لهذا الجندي المذعور أن تجعله منسجماً مع لون التبغ فلا تميّزه هو وعشرات من الجنود المنتشرين في الحقل، لكنك تراه بوضوح. هو ليس ابن الأرض لكي يتماهى معها. ليس هو من تحضنه الأشجار وتخفيه بين غصونها، أو الذي تطويه الأرض بين حبيبات ترابها، كما تقول الحاجة الستينية الصامدة في بلدة مركبا: «الإمام الحسين يرفع يديه فتنكشف الأرض وتحضن الشباب... كيف إذاً تفسّرون انتصارهملا إجابة عن هذا السؤال. تسلّم بهذا التفسير من الحاجة وأنت تستعيد تفاصيل صغيرة من رحلة الوصول إلى البلدة. كنت كل الوقت تفتش عن أثر للمقاومين. تشعر بوجودهم حولك في كل الزوايا، لكنهم غير مرئيين. لا يمكنك إلا أن تقنع نفسك بأنهم هم من أصلح لك السيارة عند مدخل القرية. تروي للحاجة: «لقد وقع «إشبمان» السيارة عند المدخل بسبب الحفرة العميقة. ما كدنا نتوقّف لفحصه حتى وصل شابان على دراجة نارية صغيرة. سألا عن خدمة يسديانها، وفوراً وجد أحدهما سلكاً معدنياً ونزل الثاني تحت السيارة وأحكم شد «الاشبمان»، ثم غادرا».
رواية تشد انتباه إحدى نسوة القرية: ما شكلهما؟ كم قدّرتم عمريهما؟ ما لون الدراجة النارية؟
لهفتها لمعرفة تفاصيل أكثر عنهما تجعلك تنتظر قصة لا تتأخر في المجيء: «خلال الحرب صعدت إلى بيتي في الحارة الفوقا وأنزلت أغراضاً في كيسين كبيرين. كانا ثقيلين وكنت أسير على مهلي. فجأة توقف شابان على دراجة نارية قربي وأخذا مني الكيسين وقالا لي إنهما سيضعانه قرب أحد البيوت في الحارة التحتا... دعوت لهما ففرحا وقالا إنهما لا يطمعان بأكثر من ذلك... أما أنا فأطمع برؤيتهما مجدداً...».
القصص لا تنتهي. سيدة من شقرا تحكي عن جدتها التسعينية التي بقيت وحدها في البيت طوال الحرب «لم يستطع أحد أن يخرجها معه بسبب قلة السيارات. بقيت وحدها وكان الشباب هم من يخدمها. يقلون لها البيض أو يسلقون البطاطا عوضاً من أن تكون هي من يتولى خدمتهم».
بيض وبطاطا... تتذكر أنك عندما غادرت البيت قبل أيام من الحرب تركت فيه بيضاً وبطاطا وعشرات المعلبات. لكنك لم تجد شيئاً منها عند عودتك. صحيح أنك لم تكن تنتظر أن تعود وتجد البيت سالماً لتفكر في الأطعمة. لم تكن تحلم إلا بالعثور على شجرة الصنوبر الصامدة رغم ثلاثة اجتياحات اسرائيلية، وشتول الورد التي تزين المدخل منذ ست سنوات، تاريخ الانتصار الأول.
ما حصل كان أكثر مما حلمت بكثير... لقد وجدت البيت ولم تجد شيئاً يؤكل فيه. لا تتوقع أن يكون الاسرائيليون هم من دخل بيتك وأكل فيه لأنهم لا يمكن أن يفعلوا ذلك من دون أن يتركوا بقاياهم: علب فارغة مثلاً أو قشور البطاطا... أو أوان متسخة... لا يمكن إلا أن يكون «الشباب» هم من دخلوا البيت وأبقوه مرتباً ونظيفاً كما تركته...
أنت كنت في مركبا. أين؟ في بيت وجدت فيه أكثر مما كنت تتوقع: شجرة الصنوبر، شتول الورد، وحلم تحب أن تصدقه، بأن يكون بيتك احتضن شاباً مقاوماً كما تحتضنه حبيبات التراب في الجنوب.