إبراهيم الأمين
لم يخرج الإسرائيليون سالمين من الحرب الاخيرة. ثمة لجان تحقيق متعددة تتولى فحص كل شيء، أمن الوحدات المشاركة في التخطيط وفي القتال، أمن المعلومات العسكرية الخاصة بالمناورات على الجبهة مع لبنان، خريطة الانتشار الخاصة بكل المواقع العسكرية والكمائن المنتشرة على طول الحدود مع لبنان، التسليح والتدريع الخاص بالفرق المدرعة، وأجهزة الرصد التقني لكل حركة مقابلة... التدريبات الكافية والتجهيز الكافي والاستعداد المطلوب لشن حرب قاسية. لكن كل ذلك لا يلغي ان الفشل المركزي يتصل بالعمل الاستخباري ضد العدو. وهو المركز أساساً على العمل الوقائي الذي يستهدف منع الخصم من القيام بعمل يعرّض سلامة اسرائيل للخطر، كما يمنع تعريض الجنود في المعركة للخطر أيضاً. وإذا كان القادة السياسيون في اسرائيل يعرفون جيداً معنى هذه المراجعة، فإن الجهات التي تستخلص العبر وتدرس الخطوات العملية هي في الجيش والاجهزة الامنية.
اليوم يواجه الاسرائيليون اختباراً في مراجعة ما حصل قبل ساعات قليلة من اتخاذ القرار بشن الحرب القاسية، وتحديداً صباح الثاني عشر من تموز الماضي، حين باغت مقاومون من الوحدة الخاصة في المقاومة الاسلامية دورية إسرائيلية كانت تسير قرب الحدود مع لبنان. وفي خلال دقائق قليلة كان الامر منتهياً. عبوة تنفجر وهجوم صاعق يخلف قتلى وجرحى وأسيرين. وبعد وقت ليس بقصير، كان المقاومون ينقلون الأسيرين الى حيث «لا تصل إليهما عين العدو ولا يده» على حد تعبير الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، الذي تولى عن بعد، متابعة العملية لحظة بلحظة، وكان على اتصال بغرفة عمليات المقاومة حيث يتبلغ بالتفصيل لحظة التنفيذ والنتائج أولاً بأول. وعندما بات الجميع في الأمان، كان السيد يتابع مع بقية قيادة المقاومة الخطوات والإجراءات الاحترازية التي تتخذ عادة في مثل هذه الحالات، قبل أن تمر ساعات وتظهر صورة الحرب حيث الإجراءات تأخذ شكلاً مختلفاً، وكذلك آليات العمل.
قبل سنوات عدة، كانت المقاومة أبلغت الاسرائيليين علناً نيتها القيام بعملية أسر بسبب امتناعها عن إطلاق سراح المعتقلين اللبنانيين، وقامت بذلك بواسطة الأمم المتحدة او بواسطة الوسطاء من دول عدة، ومن ثم بواسطة بيانات وخطب كثف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إطلاقها طوال الاسابيع التي سبقت عملية الأسر في شبعا في 7 تشرين الأول من عام 2000. وكان الإسرائيليون يعرفون أن المقاومة سوف تنفذ العملية في منطقة مزارع شبعا لأنها المنطقة المحتلة، التي اعلن لبنان رسمياً أنها محتلة، حتى إن معلومات كثيرة وصلت الى تل أبيب والى الاستخبارات العسكرية فيها عن المكان الذي تنوي فيه المقاومة تنفيذ العملية، وقد جرت التدريبات الإسرائيلية على مواجهة مثل هذه الخطوة حتى في النقطة نفسها التي نفذت فيها العملية. ومع ذلك فإن عنصر المباغتة الفعلي كان للمقاومة.
قبل عملية الاسر الاخيرة الناجحة، كانت المقاومة أعدت خطة في نهاية الصيف الماضي، وركزت على العمل داخل منطقة الغجر عند الحدود الشرقية للخط الازرق. يومها تطلبت العملية توفير غطاء قصف عسكري كان الأول من نوعه في قسوته وكثافته. يومها قصفت مجموعات كبيرة من المقاومة كل المواقع العسكرية الاسرائيلية المنتشرة على طول الحدود من البحر حتى مزارع شبعا. وبينما كانت وحدات خاصة تقتحم المواقع العسكرية في الغجر، حصل خطأ ما، نجح من خلاله الجنود الاسرائيليون في الاختباء سريعاً داخل الدشم المحصنة للمواقع، بينما قام آخرون سبق ان غادروا الموقع قبل لحظات، بإطلاق نار غزير باتجاه مجموعة من المقاومة كانت تتولى الاقتحام، فسقط اربعة من منها، وفشلت العملية.
يومها شعر الاسرائيليون بأنهم أمام خصم من نوع مختلف كثيراً عمّا عهدوه طوال الفترة السابقة. وباشروا على الفور سلسلة إجراءات على طول الحدود. ألغيت كل الإجازات التقليدية، وطلب الى الجميع التصرف على أساس ان حال الجبهة تتطلب جهوزية كاملة لا استنفاراً عادياً، وهذا ما يتطلب جهداً خاصاً، كذلك تطلب الامر تغييرات في طريقة الانتشار وفي طريقة استخدام الآليات وتخفي الجنود وتدشيم المواقع. وكانت هناك آليات كثيرة للعمل. لكن كيف يمكن توقع عمل له طابع أمني قبل ان يكون شكل تنفيذه عسكرياً؟.
في المقابل لم تكن المقاومة متوقفة عن العمل على إيجاد فرص جديدة. كان المسح لا يتوقف لكل أنواع الحركة الاسرائيلية على طول الحدود. وحدات المراقبة المباشرة تحصي أنفاس الجنود وتسجل كل حركة يقومون بها. وذات يوم، هبّت الرياح وحملت معها أوراق الرصد التي يعدها المقاومون في إحدى نقاط المراقبة. قرأ الاسرائيليون يومها أن كل شيء يدوّن: أنواع السيارات العسكرية والمدنية وأرقامها، وعدد الاشخاص الذين فيها ورتبهم العسكرية، وأي خط يسلكون في الذهاب والإياب، وملاحظات تفصيلية حول أمور كثيرة. وأكثر من ذلك، كان المقاومون يدرسون الأمر من زاوية امنية ايضاً. كانوا يعرفون تماماً كيف يتحرك الجيش عند الحدود وكيف تصدر الاوامر وكيف يتم التنفيذ، وأي اسلحة تتحرك وفي اي مناسبة وفي اي موقع. وكيف تكون الحركة في حالات مختلفة. وكان على المقاومة ان تجيد فرز ما لديها من معلومات وأن تختار الهدف الافضل.
وكان الاسرائيليون يعرفون ان المقاومة وتطورات الفترة السابقة تجاوزت منطقة مزارع شبعا المحتلة. وشملت كل الخط الحدودي بما في ذلك ما تعتبره اسرائيل محظوراً، أي خلف الخط الازرق.
وعندما تقرر موعد العملية، التي لم تكن مرتبطة بما تلاها من أحداث على مستوى القرار والاختيار لأسلوب المواجهة، كان الاسرائيليون يرون أن هناك ثغرة ما يجب العمل على سدّها. لكن المشكلة تكمن في طريقة القيام بذلك دون تعريض الجنود للأخطار، وهو الأمر الذي لم يكتمل. ويبدو ان لجنة التحقيق الخاصة بهذه العملية سوف تصل الى نتائج من الصعب التبصر بنتائجها على مستوى العمل العسكري والامني في الجيش الاسرائيلي، الذي يقترب أكثر من السابق من قرار استراتيجي بشأن العمل على الجبهة اللبنانية، علماً بأنه سوف يكون أمام مواجهة من نوع مختلف مع الفلسطينيين في الأشهر المقبلة، التي قد تشهد او تمهد للانتفاضة الثالثة، عاكسة التأثير الفعلي لما جرى في لبنان أخيراً.