انطوان سعد
الاعتبارات السياسية تتقدم دائماً على الاعتبارات القانونية عندما يجري الكلام في لبنان وخارجه على الاستحقاق الرئاسي ويتطرق المتحاورون إلى أسماء المرشحين، قلّما يتم استبعاد اسمي قائد الجيش العماد ميشال سليمان وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن السباق على رغم أن ثمة مانعاً قانونياً يحول دون انتخابهما يتمثل بالمادة التاسعة والأربعين من الدستور. فهي تنص بعد التعديلات التي أقرت في الحادي والعشرين من أيلول سنة 1990 على التالي: «(...) كما أنه لا يجوز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى، وما يعادلها في جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة وسائر الأشخاص المعنويين في القانون العام، مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعلياً عن وظيفتهم أو تاريخ إحالتهم على التقاعد».
ولدى إثارة هذا المانع، يأتي الجواب تلقائياً أنه إذا تم التوافق على أحدهما فذلك يعني حكماً أن ثلثي النواب متوافر لتعديل الدستور ولعقد لجلسة الانتخاب، ولا مشكلة في ذلك على الإطلاق. فالدستور إبان الجمهوريتين الأولى والثانية كان يلحظ اساساً في المادة التاسعة والأربعين وجوب أن يحوز المرشح لرئاسة الجمهورية «الشروط التي تؤهّله للنيابة» وبخاصة ضرورة ألا يكون في ملاك الموظفين في الإدارات والمؤسسات العامة في الأشهر الستة التي تسبق الانتخابات النيابية أو الرئاسية. ومع ذلك انتخب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية سنة 1958 وحاكم مصرف لبنان الياس سركيس سنة 1976. وقد اعترض عميد حزب الكتلة الوطنية النائب ريمون إده على الانتخابين فيما رأى سائر النواب أن نص المادة غير واضح لجهة منعهما من الترشح خصوصاً أن الظرفين السياسيين الدقيقين اللذين كانا سائدين لدى انتخابهما يفترضان وصولهما إلى سدة رئاسة الجمهورية.
إبان البحث في التعديلات الدستورية الذي جرى بين النواب في مدينة الطائف في تشرين الأول من سنة 1989، أضيفت العبارة المشار إليها أعلاه إلى المادة التاسعة والأربعين من الدستور، وفي ذهن المشرعين آنذاك رغبة أكيدة في قطع الطريق إلى رئاسة الجمهورية تحديداً على قائد الجيش وحاكم المصرف المركزي. ويوضح الوزير والنائب السابق إدمون رزق أن الهدف من هذه الإضافة توفير «تكافؤ فرص بين جميع المؤهلين للرئاسة لا إعطاء أفضلية بواسطة مرسوم، وحتى لا يصبح التعيين في وظيفة ما تعييناً في رئاسة الجمهورية، فلا يعود بالتالي بإمكان السلف أن يعين خلفه. وحتى لا يسود الانطباع المسبق لدى أي قائد للجيش أو أي حاكم لمصرف لبنان أنه سيكون فؤاد شهاب أو الياس سركيس. قد ينطوي هذا النص الدستوري على مجازفة بحرمان الجمهورية في بعض الأحيان من كفاءة معينة تحتاج إليها البلاد في ظرف من الظروف، لكن القاعدة ضمان أساسي وهي ليست موجهة ضد أحد. لقد أضفنا ما يمنع وصول كبار موظفي الدولة إلى رئاسة الجمهورية منعاً لاستغلال الوظيفة العامة التي هي ملك الشعب اللبناني، قناةً للوصول إلى موقع سياسي من أجل أن تبقى المقدرات الموضوعة في يد المسؤول صالحة فقط لخدمة المواطن اللبناني لا طموحات المسؤول».
غير أن شخصية سياسية بارزة مخضرمة غير مارونية رافقت السياسة اللبنانية دون انقطاع منذ سنة 1968، ترى أنه لا وجوب للإبقاء على هذا المنع لكبار موظفي الدولة، وأنه من الأفضل تعديل الدستور مرة أخيرة لإلغائه نهائياً، مقترحة أن يجري هذا التعديل بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة حتى لا يكون بهدف خدمة مرشح معين. وتلفت إلى تجربة الرئيسين الراحلين شهاب وسركيس اللذين أديا دورين مهمين للغاية بشهادة خصومهما وفي مقدمهم العميد ريمون إده نفسه الذي أقر أمام العديد من الشهود، وبخاصة في المرحلة الأخيرة من حياته، أن شهاب كان أفضل رئيس للجمهورية ويليه سركيس من حيث الأهمية. وتشير هذه الشخصية إلى أنها لم تسمع بأن ثمة دستوراً في الدول المتقدمة أو المتأخرة ديموقراطياً يضع حواجز أمام كبار الموظفين فيها للوصول إلى رئاسة بلادها، بل هي على العكس تستفيد من خبراتهم وتحكم عليهم من خلال أدائهم في إتمام وظائفهم.
مهما يكن من أمر الموانع الدستورية فإنها لم تقف يوماً في لبنان عقبة في طريق وصول من وما تتفق عليه القوى الإقليمية والدولية، وفي بعض الأحيان، المحلية. قد يكون المزاج الشعبي والنخبوي اللبناني اليوم عامة ضد تعديل الدستور، لكن التجربة تدل على أن السياسة في لبنان تتقدم دائماً على القانون.