نقولا ناصيف
دخل الاجتماعان المارونيان اللذان دعا إليهما البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، اليوم وغداً، بين فكّي تحميلهما أكثر ممّا يقتضي أن يحملا أو تقليل أهمية مغزاهما حيال الاستحقاق الرئاسي وتأثيرهما فيه. إلا أن حصول الاجتماعين المارونيين يقترن بمعطيات أبرزها:
1 ـــــ خلافاً للحال التي يمثلها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله داخل طائفته، لا تجسّد بكركي بالمقدار نفسه زعامة سياسية للموارنة تنخرط في أدق تفاصيل الحياة السياسية، ولا تملك وسائل تلزم مستظليها السياسيين إلى أي فريق انتموا قراراتها. وفيما يضطلع نصر الله بدور مرجعي ديني في طائفته، فهو زعيم سياسي وقائد حزبه القادر على إمرته ودفعه في الخيارات السياسية التي يقرّرها، من غير أن يتعارض الديني مع السياسي في الموقف الذي يرتئيه، فإنه يضفي على وجهَي مرجعيته، الديني والسياسي، جانباً ثالثاً هو كونه أيضاً قائد حزب مسلح مقاوم. وأياً يكن تقاسم الأدوار بينه وبين الرئيس نبيه بري على رأس طائفتهما، أضحى حزب الله قائداً فعلياً لهذه الطائفة، ونصرالله قائد الحزب. لذا يكون من السهل على نصرالله أن يسمي مرشحه ومرشح حزبه لرئاسة الجمهورية، ويخوض معركة انتخابه إلى النهاية، وكذلك معركة الحؤول دون وصول منافسه إلى النهاية أيضاً متى تعذّر التوافق.
على طرف نقيض من ذلك، تقصر البطريركية المارونية دورها، الديني والوطني، على استيعاب التناقضات السياسية الحادة التي تضرب الطائفة، من غير أن تنحاز إلى أي من الأفرقاء المتصارعين، ولا أن تقف في وجههما معاً ما دامت لا تستطيع تأييدهما في آن واحد. بذلك يكون في وسع البطريرك أن يأمر الطائفة التي يترأس ويوجّه رعايته إياها وفق الخيارات التي يرتئي، لا الأحزاب والقوى السياسية المتنافرة التي تعمل بمعزل عن مرجعية بكركي. ولعلّ الظروف التي أتاحت للبطريرك مار بولس بطرس المعوشي الوقوف سنداً قوياً للمعارضة المسيحية في وجه الشهابية ما بين 1967 و1970، بتأييده «الحلف الثلاثي» ورعايته، خير معبّر عن نجاح بكركي في حماية وحدة الموقف السياسي الماروني، وقد أفضى استطراداً إلى وحدة الطائفة نفسها. إلا أن ظروفاً كهذه يفتقر إليها صفير اليوم، إذ يجد الأفرقاء المسيحيين مفككين ومتنافرين من حوله، ويكاد البغض السياسي وغير السياسي وحده يجمع بينهم. أتاح ذلك الموقف للمعوشي، وكان يحظى بتأييد رئيس الجمهورية شارل حلو وزعماء موارنة آخرين خارج «الحلف» كالرئيس سليمان فرنجيه، أن يوجّه حملته إلى نظام سياسي اتهمه بـ«العسكريتاريا» وتقويض الديموقراطية اللبنانية. وليست هذه أيضاً حال صفير وجهاً لوجه أمام رئاسة معزولة فاقدة الدور، وانتخابات رئاسية مهدّدة بعدم إجرائها وباستعادة امتحان الفراغ الدستوري، ومرشحين للمنصب متنافرين عاجزين عن قيادة استحقاق طائفتهم بمعزل عن الزعامة السنية لـ 14 آذار والزعامة الشيعية لـ 8 آذار. وفي أي حال لا يسمّي البطريرك مرشحه للرئاسة، ولا يجهر علناً بتأييد مرشح دون آخر، ولا حتى التصرّف بما يوحي انحيازاً منه إلى أحد المرشحين. ولا يحجب ذلك أن للبطريرك سرّه في المرشح الذي يريده.
وحيث نجح صفير في قيادة المسيحيين، لا الموارنة فقط، في معركة إخراج سوريا من لبنان، تعذر عليه تحقيق تفاهم الحد الأدنى بينهم بين عامي 1988 و1990 وفي استحقاق هذه الأيام لمجرد أن النزاع ماروني ـــــ ماروني.
2 ـــــ يلتقي تحت سقف بكركي في اجتماعي اليوم وغداً الطرفان المارونيان المنضويان في التكتلين السياسيين المتناحرين، اللذين يصحّ فيهما القول إنهما ـــــ أي الفريقين المارونيين ـــــ المتقاتلان في غياب أفرقاء موارنة آخرين خارج صراع 14 و8 آذار. إلا أن البطريرك يدرك أيضاً أن دعوتهما إلى اجتماعين تحت رعايته لا تحمل أوهام توقّع اتفاقهما، وربما أخفق في تأمين اجتماع واحد يحضرانه في وقت لاحق بسبب وطأة الانقسام بينهما على الاستحقاق الرئاسي. لا مسيحيو 14 آذار يؤيدون المرشح الوحيد للمعارضة وهو الرئيس ميشال عون، ولا الأخير يريد أن يفسح لمرشحي الطرف الآخر كي يكونوا منافسين له على المنصب. تالياً يجتمع الطرفان على فكرة أن كلاً من مرشحيهم، من هذا الفريق أو ذاك، يصلح لأن يكون هو وحده ـــــ لا الآخر ـــــ مرشحاً توافقياً. في حين أن مشكلة الاستحقاق الرئاسي لا تتوقف عند هذا النمط من الجدل المستعصي على الحل، بل ثمة ما يطلبه السنّة من الاستحقاق الرئاسي، وهو الدور المفترض لرئيس أولى حكومات العهد الجديد، وما يطلبه الشيعة من الاستحقاق أيضاً وهو الشراكة الكاملة في حكم البلاد. فإذا بالخلاف الماروني ـــــ الماروني أحد جوانب مشكلة الاستحقاق الرئاسي، لا مشكلته الوحيدة. وبالتأكيد يستمد النزاع على اسم الرئيس المقبل للجمهورية من كون السنّة يريدونه ضماناً لدور رئيس الحكومة، والشيعة ضماناً لتحقيق مشاركتهم في السلطة.
وربما بسبب ذلك، تبدو الغاية من اجتماعي بكركي تأكيدها ثوابت موقفها من الاستحقاق الرئاسي، أكثر منه تعويلها على مؤازرة الطرفين المارونيين المتنافسين لها لتعزيز موقفها، والتوصّل إلى قواسم مشتركة تمهّد لموقف مسيحي واحد والاتفاق على رئيس توافقي للجمهورية.
3 ـــــ لم تلقَ سلسلة المواقف التي كان قد أطلقها البطريرك من انتخابات رئاسة الجمهورية ترحيب مسيحيي 14 آذار ومسيحيي 8 آذار نظراً إلى أنها أرست معادلة لا توازن بين ما يريده كل من هذين الطرفين من الاستحقاق فحسب، بل ترغب في تثبيت النظرة الشاملة للصرح البطريركي إلى مسار الاستحقاق الرئاسي ومصيره. الأمر الذي قاربه الطرفان المارونيان وفق نظرة جزئية اتصلت بما يتطلبه كل منهما من استحقاق 2007. قالت بكركي بإجراء الانتخابات الرئاسية في المهلة الدستورية ودون إبطاء. وإذ ربطت بين نصاب الثلثين لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية من أجل تحقيق أوسع إجماع سياسي ووطني عليه، عارضت مقاطعة جلسة الانتخاب بسبب الخلاف على الرئيس الجديد. وهكذا تكون بكركي قد لامست الجانب السلبي الذي يتسلّح به كل من الطرفين للضغط على الآخر: تهديد قوى 14 آذار باللجوء إلى نصاب النصف الزائد واحداً لانتخاب رئيس للجمهورية من صفوفها بمعزل عن الفريق الآخر، وتهديد قوى 8 آذار بمقاطعة جلسة الانتخاب والمضي في تأليف حكومة ثانية. وهذان الخياران يضعان البلاد على شفير الهاوية.
الواقع أن التلازم الذي تطرحه بكركي بين نصاب الثلثين لجلسة الانتخاب وعدم مقاطعة هذه، يقتضي أن يفضي إلى انتخاب رئيس توافقي للجمهورية، لا تجيير النصاب لمصلحة فريق دون آخر، ولا التسبّب في المقابل بفراغ دستوري ينشأ من تعطيل النصاب القانوني للجلسة.