أحمد محسن
يشبه الدوري اللبناني لكرة القدم هذا العام إطلالة رجلٍ مسنّ يكاد يفارق الحياة. الملاعب معتمة جداً والفراغ خيّم على الأجواء. حتى أن مباراة القمة بين النجمة والأنصار، التي طالما شغلت اللبنانيين، جرت قبل أسبوعين ولم يعرف بها كثيرون، ولم يخلُ الحصول على نتيجتها من صعوبة

في مباراته الأخيرة أمام الجمهور في 22 شباط 2006، تعادل المنتخب اللبناني مع نظيره الكويتي. بعدها، اعتذر المنتخب عن عدم استضافة باقي المباريات على أرضه، بسبب تزامن توقيتها مع العدوان الإسرائيلي على لبنان. تفهّم الاتحاد الآسيوي لكرة القدم الأمر من دون أن يعلم ربما أنه في مباراة لبنان والكويت انقسم الجمهور اللبناني على نفسه سياسياً، وانقسمت معه الجمهورية الجريحة إلى جمهوريتين.
في تلك المباراة، اضطر الجيش اللبناني إلى فصل المتنازعين بفاصلٍ طويل من العسكريين. إذ لم يشجع أحد الوطن، واقتصرت الهتافات على الشتائم المتبادلة بين حملة العلم نفسه. كان الأمر معيباً جداً. لم ينفع العلم اللبناني الذي وزع على الجميع قبل دخولهم في إيجاد وحدة حال، وعانى الجيش كثيراً في تنظيم خروج المتفرجين من الملعب، ولم ينجح أحد حتى الآن في إعادتهم إليه، وصار الدوري اللبناني أشبه بقاعةٍ مغلقة، تظللها السماء وتختصر الوجع اللبناني كله.

النجمة ـــ الأنصار

قبل أسبوعين تقابل فريقا النجمة والأنصار، من دون أن يعرف الكثيرون النتيجة إلا بعد أيام. غابت المظاهر الاحتفالية عن الأحياء التي طالما شهدت تظاهرات سيّارة أو «هوائية» من مشجعي الفريقين، وغابت النكات وعبارات «التزريك» المتبادل في صفوف العائلة الواحدة كما كان يحصل في السابق.
الجمهور لا يخفي غضبه. المشّجعون يشتاقون لمتابعة الأحداث التي كانت تحصل داخل الملعب، الحماسة الزائدة والتعلّق باللاعبين، السباب الذي كانوا يكيلونه لهم عند إضاعتهم فرص التسجيل. «كانت المباريات بمثابة فشة خلق لنا»، يقول أبو عصام المشجّع الأنصاري العتيق. «كنا نهرب من الواقع المرير، من الفقر والتشنّج الطائفي إلى الملاعب».
بشير (25 عاماً) يعبّر عن خيبة حقيقية. لا يفهم ماذا يجري ويقول: «الأنصار ليس ملكاً لأحد. انا ابن الضاحية الجنوبية لكني أشّجع الأنصار منذ طفولتي». الأمر عينه ينسحب على أبو حسن (37 عاماً) الذي لم يفوّت مباراةً واحدة للأنصار في حياته، حتى أنه كان يتابع حصص التدريب في ملعب النادي، يصف الحالة بالبشعة: «كانت لكرة القدم نكهة أخرى، وعندما فرّقتنا السياسة بقيت الملاعب تجمعنا، يبدو أنهم قرروا هذه المرة تخريب البلد كلياً».
راغب (22 عاماً) من القلائل الذين رحّبوا بقرار إقامة الدوري بلا جمهور. يعلّل ذلك بقوله «كانت المشاكل تقع قبل التوتر السياسي، فكيف ستكون الحال الآن؟ رأينا ما حصل في جامعة بيروت العربية، وهؤلاء يعدّون متعلّمين وواعين أكثر من الشبّان الآخرين».
راغب يرفض التعليق على ما آلت إليه الأمور، لكنه مستاء جداً من الصور التي علقت على مقر رابطة مشجعي الأنصار للمفتي محمد رشيد قباني والنائب سعد الحريري!
فريق النجمة، الذي يملك قاعدة شعبية واسعة في الضاحية الجنوبية تتركز في الشيّاح، خسر ،بدوره، من شعبيته بسبب الأحداث الأخيرة. يشرح إبراهيم الأمر: «جمهور النجمة في الشياح محسوب على جهة سياسية معينة. وليس مرحّباً بنا في طريق الجديدة»، يضيف: «أعترف بأننا افتعلنا المشاكل في ما مضى، لكنها كانت حركات شباب. هذا لن يحصل الآن، نريد العودة إلى الملاعب فقط».
يجمع محبو كرة القدم، على اختلاف أجيالهم، أن الأمر لا يطاق. «كنا ننتظر مباراة النجمة والأنصار بفارغ الصبر»، يقول إبراهيم بأسى، «الآن أنظارنا في مكانٍ آخر. البرشلونة والميلان أخذوا كل الاهتمام لتفوق المستوى الفني، لكن الحنين يبقى دائماً إلى النجمة والأنصار، النقل التلفزيوني ليس كافياً» خصوصاً «أن قناة المستقبل هي التي تقوم ببث المباريات»!

فتّش عن السياسة

صار معلوماً لدى الجميع أن وحل السياسة في لبنان يلاحق كل شيء، فكيف الرياضة؟
في معظم دول العالم، تحمل الفرق الرياضية أسماء المدن التي نشأت فيها، إلا في لبنان حيث للأحزاب حصة الأسد بالفرق التي ترتبط بها حتى بالتمويل.
التوّزع الديموغرافي للملاعب يتبع المنهجية الطائفية هو الآخر، من ملعب بيروت البلدي الكائن في الطريق الجديدة مروراً بمدينة بيروت الرياضية التي تحّولت إلى ثكنة عسكرية محاطة بمدرعات الجيش، وصولاً إلى ملعب العهد قرب ثانوية الكوثر. المشاكل كانت تحصل بسبب هذا التقسيم المذهبي لكرة القدم، لكن تفاقم الوضع السياسي فجّر الملاعب دفعةً واحدة.
في الفترة التي اشتد فيها التناحر السياسي أحرق بعض الموتورين ملعب نادي الأنصار على طريق المطار، فاضطر اللاعبون إلى نقل تمارينهم إلى قصقص مؤقتاً. الفوضى طاردت اللعبة كلها، حتى الحصص التدريبية التي لا يشاهدها الكثير من المتفرجين.



وفي هذا السياق، يأتي قرار منع الجمهور من متابعة المباريات الذي لم يصدر في الأصل عن الاتحاد اللبناني لكرة القدم، بل عن جهات سياسية. فقد أكد الاتحاد اللبناني لكرة القدم في أكثر مناسبة أن وزارة الداخلية، بناءً على تعليمات رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، هي التي اتخذت القرار، وأصدر أكثر من بيانٍ يتعلق بالموضوع، خصوصاً أنه لم يعد قادراً على التكّفل بالنفقات المترتبة على إقامة الدوري من دون العائدات التي كانت تتحقق من بيع التذاكر، مثلما كان حاصلاً في العام الفائت، علماً أن بعض البلديات أعفت الفرق من الرسوم فيما كانت الأخرى حازمة جداً.
رغم ذلك يستبعد الأمين العام للاتحاد رهيف علامة عودة الجمهور إلى الملاعب في القريب العاجل، والسبب نفسه: «القرار ليس قرارنا وهو صادر عن وزارة الداخلية والبلديات»!
تسلسل الأحداث يتعاطف مع كرة القدم، وليس مع الجمهور. كرة القدم هي الخاسر الوحيد. الجمهور كان يقوم بالمشاكل قبل الأزمة، لكن الأحداث جاءت مثل الزيت على النار واشتعل كل
شيء.

«نلعب بلا أمل»

عدوى اليأس انتقلت إلى الفئات العمرية الشابة في الأندية. لا يخفي أحمد اللاعب في «شباب الأنصار» حزنه من انتقال التمارين إلى قصقص، لكن الآن: «الوضع منضبط، ونحن إخوة في الفريق». أما محمد، المعروف باسم «حودا» بين أصدقائه، والذي انتقل حديثاً للعب ضمن الفريق الأول في صفوف الريان، فيعبر عن أساه لأنه كان يطمح إلى اللعب تحت نظر الناس مرتدياً قميص المنتخب الوطني ومدافعاً عن بلاده على طريقته. كان يحلم أن تصرخ له الجمهور، الذي كان واحداً منهم: «ماذا نستفيد من اللعب بلا جمهور؟ لمن
نلعب؟».
المستقبل الذي ينتظر هؤلاء الشبّان ليس زاهراً على الإطلاق. في الأساس، الإمكانات قليلة، والدعم المادي للرياضة في لبنان محدود جداً، ويقتصر على بعض الإعلانات المتواضعة، التي تستفيد منها فرق العاصمة عامة. رغم ذلك هم يحبون كرة القدم ويفضّلونها على المذهبية والحروب الأهلية. جزء كبير منهم يحب رضا عنتر اللاعب المحترف في ألمانيا ويحلم أن يصبح مثله. من الجنوب إلى الشمال مواهب شابة عديدة، لم تلق الاهتمام المناسب، وعندما حاولت أن تأخذ على عاتقها مسؤولية الاهتمام بالكرة فقط، منعوها من مشاهدة المباريات!



ذهب ولن يعود؟

تبدو الأمور وكأن الدوري ذهب ولن يعود، فتأدية المباريات بلا جمهور تظهره مثل قطارٍ متوقف عند الكثيرين. الأضواء بعيدة عنه حتى فقد بريقه تماماً. في 17تشرين الثاني الفائت توفّي مدّرب النجمة الصربي نيناد ستافريتش بعد حادث سير في سوريا أثناء زيارته لأحد الأصدقاء. لم يسمع أحد بالخبر. لو حصلت الحادثة نفسها منذ سنواتٍ قليلة لكانت استحقت بعض الاهتمام من وسائل الإعلام.
قبل ذلك، اتخذت اللجنة العليا للاتحاد اللبناني لكرة القدم قراراً كان يمكنه أن يشعل نقاشات لا تنتهي بين مشجعي اللعبة. فبخلاف العادة، قررت اللجنة بعد الأسبوع الأول من انطلاق الدوري، إيقاف الحكمين الرئيسي أندريه حداد والمساعد حسين فرج احتياطياً وإحالة أمر أدائهما التحكيمي في مباراة ناديي العهد والأهلي صيدا الى اللجنة الرئيسية للحكام لاقتراح العقوبة الكاملة. لكن اهتمام الناس محصور هذه الأيام في فراغ كرسي الرئاسة لا في فراغ «كراسي» ملاعب كرة القدم.
يجب أن يتذكر الجميع أن كرة القدم ضحّت بنجمتين على مذبح التقاتل الداخلي، فقد أودى اغتيال النائب وليد عيدو قرب ملعب النجمة في عين المريسة بحياة اللاعبين الشابين حسين نعيم وحسين دقماق. لم يكن اللاعبان يوزّعان المنشورات ويلقيان بالتصريحات الطنانة على المسامع. لم يشارك أي منهما في العمل الحزبي ولم يتظاهرا أو يعتصما. كانا يلهوان بالكرة، وسقط كل منهما ضحية صراع لا علاقة لهما به.
قد يرجع الجمهور ويأخذ مكانه في الملاعب، وعلى الأرجح سيصار إلى انتخاب رئيسٍ للجمهورية بعد تسوية متوقعة كالعادة. لكن الشيء المستحيل حدوثه هو عودة نعيم ودقماق إلى مواقعهما في تشكيلة النجمة. قمصانهما ستحمل أرقاماً بلا أجساد إلى الأبد.
المنتخب الوطني بدوره يلعب بلا مشجعين! ضحت كرة القدم بالكثير، بما فيه الجمهور والناس. ويجب على جميع الجماهير في حال عودتها عدم التضحية بها من جديد. فليعزلوها عن السياسة. الحالة السياسية في لبنان أفعى طويلة سمّمت كل شيء طاله لسانها في هذا
البلد.