تحوّلت الشوارع المحيطة بالنويرة وبربور إلى ساحة معارك شبيهة بما تيسّر تسجيله أيام الحرب الأهلية: مقاتلون يختبئون وراء الأبنية، يطلّون مطلقين الرصاص ليعودوا ويحتموا في الداخل، فيما زملاء لهم يكملون المهمّة
رشا أبو زكي

هنا الحرب: محاور، جعب، أسلحة، قنّاصة، العدة موجودة والتصميم وخط التماس كذلك... فقد أصبحت الطريق الجديدة وبربور وجهاً لوجه، وكورنيش المزرعة الذي يفصل بين المنطقتين شاهداً على الاستفزازات المشتركة... وللمعركة استراتيجيتها، إذ قُسِّم الكورنيش 3 محاور رئيسية: الأول عند جامع عبد الناصر، والثاني عند بنك عودة، والثالث عند «المصلّبية» التي تصل الكورنيش بالكولا. من المحور الأول كانت الشرارة الأولى. في البدء كانت الشتائم، فمحاولة هجوم، فحجارة يتراشق بها الطرفان... وبعد ساعات جاء دور الرصاص.

التوتّر في أوجه
عند الحادية عشرة من قبل ظهر أمس بدأ الخلاف الحقيقي بين مناصري المعارضة في بربور ومناصري الموالاة في الطريق الجديدة. الهدوء كان عقدة زمنية بين خلافين، كرّ وفرّ مع الجيش والشعارات الطائفية المدججة بالشتائم ترتفع بين دقيقة وأخرى...
ظلت المناوشات متنقلة بين محوري بنك عودة وعبد الناصر، إلى أن ارتفع صوت قوي من محور الكولا ـــــ كورنيش المزرعة. الفريقان يتوجهان إلى الموقعة بخطين متوازيين: الأول من جهة بربور، والآخر من جهة الطريق الجديدة. وصلت الحشود وبدأ التراشق بالحجارة. يحاول شبان الطريق الجديدة التوجه نحو بربور، لكن تدخّل الجيش حال دون احتدام المواجهة... حان وقت الانتقال إلى جبهة أخرى، فكانت العودة إلى محور عودة. من جهة الطريق الجديدة كان الجيش يلاحق الشبان لكي يتراجعوا إلى الخلف، ومن ناحية بربور الوضع كان نفسه...
عند الحادية عشرة والنصف بدأت تتزايد الشائعات عن وجود قنّاصة، واندلعت حرب تكنولوجية بين الطرفين المتصارعين استخدمت فيها مختلف أنواع الكاميرات والتسجيلات الصوتية، وإذا بمجموعات نوعية من الطرفين تنتقل مرة أخرى إلى حرب الحجارة... وهنا الحجارة جاهزة لا تستلزم سوى ضربة عنيفة على الأرض كي تصبح صالحة للاستخدام. عند الساعة الحادية عشرة و45 دقيقة بات التوتر العام سيد الموقف وتفاقمت الاستفزازات المتبادلة، فحاول الجيش التهدئة وأطلق الرصاص في الهواء، ولكن دون جدوى.
الصحافيون يتهامسون: لقد تعرض مصورا جريدة «البلد» أسعد أحمد ووديع شلنك للضرب ونقلا إلى مستشفى الروم، ومصور جريدة «اللواء» جمال الشمعة لم يكن نصيبه أفضل وسط حفلة الجنون السائدة.

الجيش يضرب بالحجارة
الساعة الثانية عشرة والنصف حان دور الجيش الذي تعرّض لهجوم كثيف بالحجارة بعد منعه أحد المصورين من البقاء في موقعه.
ارتفع صوت الأذان. هدوء نسبي يسيطر على المحاور، ولكن بعض الهتافات المضادة تعيد الأجواء إلى حالتها السابقة. 15 دقيقة وتضرم النيران مجدداً في مستوعبات النفايات. دقيقتان والأعلام تُحرق والحجارة تطاول كل من يُصادَف وجوده في إحدى الطرقات المتواجهة... 15 دقيقة أخرى ويُسمع صوت الرصاصة الأولى... بدأت الحربstrong>الاستعدادات
الولوج إلى الشوارع الداخلية في المنطقتين كان مثيراً للريبة... فالشبان مستعدون لمواجهة كل ما يشعرون بأنه يهددهم. والروايات في المنطقتين تختلف إلى حد التناقض.
في الطريق الجديدة كان التوتر متفاوتاً بين حي وآخر، والأكثر اكتظاظاً بالشبان هي الأحياء الخارجية القريبة من كورنيش المزرعة. في إحدى الزوايا كان يجلس عدد من الشبان الذين بدأوا يروون حكاياتهم: «لم تغمض أعيننا منذ البارحة. ما زلنا هنا، وكان انتظارنا مفيداً، بسبب دخول بعض الشبان من بربور إلى الطريق الجديدة حيث قاموا بحركات استفزازية وحاولوا تكسير سيارات مركونة إلى جانب الطرق، وعملنا على صدهم، وبعد لحظات كانت الأسلحة بين أيديهم أمام مطحنة الحلبي وبدأوا بحرق الدواليب».
ولكن هل الشبان في مقتبل العمر مستعدون للمواجهة المسلحة؟ يجيب أحد الشبان إيجاباً، ويلفت إلى أن حزب الله يريد السيطرة على بيروت «وهذه المنطقة، أي الطريق الجديدة، ستبقى صامدة»، ويشير إلى أن سكان الطريق الجديدة متنوّعون طائفياً «وحتى الشيعة هنا لا يريدون من يريد الاعتداء على أملاكهم». ويتدخل شاب آخر لافتاً إلى أنه «إذا فُرضت علينا المواجهة فنحن مستعدون».

«ندافع عن حقنا»
أما في الجهة المقابلة، فكانت الرواية مختلفة، واللافت أن الشبان هنا يميّزون بعضهم بقبعة كان يعتمرها الشهيد عماد مغنية في إحدى صوره. يشير أحد الشبان الذي لا يتعدى عمره الـ19 عاماً إلى أنه لا يستطيع الجلوس في منزله لمشاهدة أشخاص في الشارع يدافعون عن حقهم في العيش الكريم، لذلك فهو مشارك في الاعتصام، ويرى أن راتبه لا يكفي لتأمين حاجاته الأساسية، وأنه يريد تأمين حد أدنى من الراتب يمنعه من الهجرة، مؤكداً أنه ليس طالب شغب، بل يريد أن يحصل على حقوقه كأي مواطن في أي بلد في العالم، ويلفت إلى كون زيادة الحكومة للحد الأدنى إلى 500 ألف ليرة ليس سوى إجراء اسمي.
شاب آخر عمره 22 سنة يقول إنه يعمل 16 ساعة في اليوم براتب لا يتعدى 400 ألف ليرة، ولا يستطيع حتى مساعدة أهله لأنه ينفق معظم راتبه على السرفيس، والاعتصام والتظاهر حق دستوري وهو «مستعد للدفاع عن حقه حتى آخر رمق».



قنص ومنع تجوّل

«انتهى وقت اللعب وجاء وقت الجدّ»: انسحب الشبان المدنيون المنتشرون على «أبواب» شارع المزرعة من ناحية حيّ بربور، وحلّ مكانهم مسلّحون بعدما سمعت رشقات نارية كثيفة وأصوات انفجارات تبيّن أنها قذائف ب 7. منع المسلّحون التجوّل، وهددوا كل من يخرج عبر نافذة أو شرفة، مطلقين طلقات في الهواء. صياح يرافق النيران والانفجارات، دقائق من الهدوء يقطعها أحد العناصر لتعود وتحتدم المعركة.
الخروج من المنطقة مستحيل في ظلّ عمليات القنص من الجهة الأخرى ومنع التجوّل. تمّ التواصل مع أحد المسؤولين من حركة أمل، فأمّن الطريق رغم القنص، آمراً بتسليم الكاميرات مؤقتاً وعدم النظر إلى وجوه العناصر. عند مدخل أحد الأبنية، صراخ يقابل عنصراً من فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي ـــــ كما تشير سترته ـــــ إضافةً إلى بعض الكدمات التي تعرّض لها من عنصر في الدرك بثيابه العسكرية: إنّه صراع مؤسسات الدولة.