لم يُنفض الغبار بعد عن رُكام الاقتحام الذي نفّذته القوى الأمنية في سجن رومية المركزي. الضحايا المصابون من السجناء والقوى الأمنية يضمّدون جراحهم، أما القتلى الذين بلغوا ثلاثة سجناء، فقد بدأ أهاليهم مراسم العزاء. أهالي السجناء يعيشون حالة هستيرية حادة؛ فأبناؤهم يُضربون ويُقتلون داخل أسوار السجن من دون أن يستطيعوا لهم شيئاً. يُضربون ويُقتلون لا لذنبٍ سوى مطالبتهم ببعض حقوقٍ لهم مشروعة. يطالبون بأن يُحاكموا؛ فقد سئِموا الحيرة حيال مصيرٍ يرفض القاضي تحديده. انتفضوا وتمرّدوا على حياة داخل زنازين تأبى الكلاب الضالة العيش فيها. أما المسؤولون فطبّقوا المثل القائل: «قتلوا القتيل ومشوا في جنازته»؛ فهم من أوصل الأمور إلى الانفجار وتقاذفوا التّهم حيال تحمّل المسؤولية. الحكومة اللبنانية هي أوّل من يتحمّل المسؤولية؛ فالأموال تُصرف يمنة ويُسرة على أُمورٍ، أهميتها لا تكاد تُذكر إذا ما قورنت بحياة نحو 5000 إنسان يفتقرون في حبسهم إلى أبسط مقومات العيش. ورغم أن صرخات السجناء المستغيثين لم تصمت ولو للحظة، سدّ المسؤولون آذانهم وأغلقوا عيونهم، رافضين السماع والنظر. لم يُعط السجن أي مخصصات، ولو توافرت النيّة لتمكّن المعنيون من جمع تبرّعات قادرة على أن تبني سجناً، بل عشرات السجون. وزارة العدل أيضاً يقع على كاهلها الوزر الأكبر؛ فالمرفق القضائي هو المسؤول الحصري عن احتجاز ثلاثة آلاف موقوف لسنوات من دون إصدار أحكام بحقهم. بعض القضاة مقصّرون لتركهم الملفات تتراكم لديهم، من دون مبالاتهم بأرواح عائلة الموقوف الذي قد يتبيّن في وقتٍ لاحقٍ أنه بريء. المذكورون ليسوا الوحيدين؛ فرئيس الجمهورية ميشال سليمان، أدى دوراً في زيادة الاحتقان بين السجناء أيضاً. المخوّل حصراً بمنح العفو الخاص وفق القانون، منحه لأربعة مجرمين ارتكبوا جريمة قتل إيلي شاوول، نجل وزير العدل الأسبق جوزف شاوول. مبرّر انتقاء الرئيس لهؤلاء لا يزال مجهولاً حتى اليوم. السجناء الذين سبق أن اتّصلوا بـ«الأخبار» كانوا يعربون عن استنكارهم تخصيص المجرمين الأربعة بعفو الرئيس دون غيرهم، رغم أن هناك عشرات السجناء الذين يشبه وضعهم وضع المعفى عنهم. السجناء تساءلوا حينها عن المعايير التي يعتمدها الرئيس لمنح أشخاصٍ دون غيرهم العفو الخاص، علماً بأنّ المعفوّ عنهم لا يتمتّعون بحُسن سيرة وسلوك، مع الإشارة إلى أن أحد هؤلاء كان من بين المتمرّدين أمس، وقُتل إثر انفجار قنبلة صوتية بيده.
اتُّخذ القرار باقتحام السجن المركزي بعدما أفلتت الأمور من عقالها. قرار الاقتحام كان الشر الذي لا بدّ منه لإعادة الإمساك بزمام الأمور. وعلى الفور، وُجّهت أصابع الاتهام إلى وزير الداخلية زياد بارود والقوى الأمنية لتحميلهم مسؤولية ما حصل. المذكوران يتحمّلان جزءاً من المسؤولية حيال ما يحصل، لكنهما يأتيان في الصفّ الأخير للمشاركين في جريمة أحداث رومية. مسؤولية الضبّاط والعناصر تأتي من معاملتهم السيئة للسجناء التي تفتقر إلى أدنى معايير حقوق الإنسان. بعض الضباط والعناصر مسؤولون عن التمييز في المعاملة وتلقي الرشى والتواطؤ في تهريب الممنوعات إلى داخل السجن.
وقائع من عملية الاقتحام
سيطر السجناء المتمرّدون على المباني الأربعة دخل السجن. اقتحموا مبنى الأحداث وأخذوا أقاربهم قبل أن يكسّروا محتوياته. استولوا على خزان المازوت والمشاغل بما تحويه. وجدوا ماكينة لقص الحديد وتلحيمه. استعملوها، فقصّوا أبواب السجن ودعّموا بعضها. كانت بحوزتهم شفرات وسكاكين وأبر وسيوف ومناشير. صاروا رسمياً، لساعات محدودة، حكّام السجن. تحدّث مسؤولون أمنيون عن صدامات بين السجناء أنفسهم، حكوا عن تهديد حياة بعض السجناء. فاوضوهم لأيام فلم يتوصّلوا إلى صيغة هدنة. أخذوا قرار الاقتحام بما يترتب عليه من مخاطر. شارك في العملية نحو 500 عسكري من القوى السيّارة، بالإضافة إلى عشرات العناصر من فرع المعلومات بمؤازرة عسكريين من فوج المغاوير. كذلك استُدعي قائد سرية الضاحية العقيد علي حسّونة، باعتبار أنه يعرف عدداً من السجناء المتمرّدين. توزّع المهاجمون على مجموعات وسلكوا محاور مختلفة. استخدموا القنابل الصوتية والرصاص المطّاطي. في المقلب الآخر، كان السجناء يستعدون. دعّموا بعض الأبواب بتلحيم الأبواب المخلوعة فوقها. جهّزوا زجاجات المولوتوف المعبأة بالمازوت. فرشوا الأرض بالفرش المشبعة بالمازوت تمهيداً لإشعالها عند دخول القوى الأمنية لإحراقهم. أشعلوا الحرائق قرب الأدراج الحديدية لرفع حرارتها تحت أرجل المهاجمين. توزّعوا إلى فرق وانتظروا. دخلت القوى المهاجمة لتبدأ المعركة. مرّت ساعات لينجلي الغبار عن سقوط ثلاثة قتلى ونحو أربعين جريحاً من السجناء. فيما راوحت الحصيلة لدى القوى الأمنية بين 20 و 40 مصاباً، احترق أغلبهم بزجاج المولوتوف والمازوت المشتعل.
نتج من الاقتحام ردود فعل انقسمت بين الشعبي والرسمي. ففي الإطار الرسمي، أعرب رئيس مجلس النواب نبيه برّي عن استعداد المجلس للقيام بكل ما يلزم لمساعدة المساجين من خلال اقتراحات قوانين، لافتاً إلى أنهم بحاجة إلى حكومة فاعلة. وأكّد النائب ياسين جابر ضرورة وضع خطة مشتركة بين وزارتي الداخلية والعدل تُحسّن إدارة السجون وتنظم أمور السجناء وتقضي على ظاهرة المخدرات في السجون، مشيراً إلى أنه لا يجوز أن نشهد كل يوم انتفاضة. وسُجّل موقف بارز للأب هادي العيّا الذي رأى أن علامات الحياة غائبة في سجن رومية ونفسية المساجين سيئة. وفي ردود الفعل الشعبية، تداعى أهالي السجناء إلى الاعتصام أمام سجن رومية المركزي لتبدأ عمليات الكر والفر بين الأهالي والقوى الأمنية. وفي بعلبك، قطع أهالي حي الشراونة المدخل الشمالي لمدينة بعلبك بالإطارات المطاطية والعوائق والحجارة، مانعين السيارات من الدخول أو الخروج من المدينة، مطالبين بالعفو العام عن السجناء. كذلك قطعوا الطريق الدولية بعلبك ـــــ حمص بين إيعات وتل الأبيض، على خلفية ما حصل في سجن رومية، رافعين شعارات تدعو إلى معرفة مصير أبنائهم، وطالبوا بمنح السجناء العفو العام.



قرارات ما بعد العاصفة

عُقد اجتماعٌ لمناقشة تداعيات ما حصل في سجن رومية، ترأسه الرئيس سعد الحريري، وحضره وزير العدل إبراهيم نجار ووزير الداخلية زياد بارود والمدعي العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي وقائد الدرك بالوكالة العميد صلاح جبران وممثلان عن الهيئة العليا للإغاثة ومجلس الإنماء والإعمار، خصص لمناقشة أوضاع السجون في لبنان وخصوصاً سجن رومية. وأكد بيان المجتمعين «أن موضوع السجون يعني كل الحكومة، فأمن السجون يمثّل خطاً أحمر». وقرر المجتمعون عدداً من الإجراءات، أبرزها تكليف الهيئة العليا للإغاثة إعادة تأهيل سجن رومية. وتكليف المفتشية العامة في قوى الأمن الداخلي التواصل مع أهالي السجناء، واستحداث مكتب خاص للمفتشية في السجن لتلقي الشكاوى ومتابعة ضبط الإدارة فيه، بالإضافة إلى متابعة تركيب شبكة كاميرات مراقبة مربوطة بغرفة مركزية في سجن رومية، والإسراع في تركيب نظام تشويش على الاتصالات الخلوية في موازاة التشدد في التفتيش، فضلاً عن إقامة قاعة محاكمة قرب سجن رومية لمحاكمة السجناء الإسلاميين.