يذهبون إلى البلاد الأوروبية طمعاً في الاستقرار، وهرباً ممّا يعدّونه جحيماً في أوطانهم. في بلجيكا أحوال «المهاجرين» متشابهة، لكن أغلبهم يؤكدون أن أهدافهم تحولت من الاستقرار هناك، إلى الحصول على «أي ورقة»... هنا بعض القصص التي عاشها مهاجرون أثناء بحثهم عن طريقةٍ تشرّع وجودهم في البلاد
بروكسل ــ سليم الحاج
لم يخطر في بال رامي أنه سيتحول إلى لاجئ في بلجيكا. ظنّ كأغلب اللبنانيين الذين يسافرون إلى الخارج أن حصوله على الجنسية الأوروبية لن يستغرق وقتاً طويلاً. الشاب العشريني لم يتمكن حتى اليوم، بعد سنةٍ من سفرهِ، من الحصول على إقامة دائمة. المهم في الأمر أنه يعترف بأن هجرته حصلت بطريقةٍ غير شرعية، فقد قدم طلباً إلى السلطات الرسمية البلجيكية بعد وصوله إلى العاصمة بأيام للحصول على اللجوء السياسي. ادعى أنه مضطهَد في لبنان لأسبابٍ دينية (طائفية بالمعنى اللبناني). يتردد رامي بالحديث عن قصة لجوئه عبر منبر إعلامي. يخاف أن تعلم السلطات البلجيكية بتفاصيل قدومه غير الشرعي إلى بروكسل. ينطلق من هذه النقطة ليروي مشاكل يومية تواجهه وتحرق أعصابه. لا يملك رامي تأشيرة عمل قانونية، ما يعني عدم قدرته على العمل بصورةٍ قانونية، وليس بإمكانه اقتناء سيارة أو قيادتها بصفة قانونية، ولا يستطيع بالتالي الحصول على منزلٍ. زادت السلطات البلجيكية طين رامي بلة، إذ رفضت طلبه اللجوء السياسي فيها، لكنه حاول استئناف القرار، وراح يبحث عن محامٍ جيد.
في إطار الحديث عن المحامين، يشدد رامي على أن ثمة محامين معروفين متخصصين في مثل هذه القضايا، وقد يستطيع تحصيل الإقامة الشرعية في أوروبا. «يسيطر عليّ هاجس الخوف من رجال الشرطة يومياً»، يقول غاضباً، لكنه لا يلبث أن يتنفس الصعداء: «جحيم الشرطة الأوروبية أسهل بكثير من الجحيم في بلادنا».
لا يختلف نهاد عن رامي كثيراً. نهاد كان لاجئاً في لبنان. وُلد ونشأ في أحد المخيمات الجنوبية. ثمة فرق بسيط بينهما، فقد طالت رحلة لجوء الشاب الفلسطيني، وهو يروي، بلا خوف ولا حرج قصة وصوله إلى أوروبا بطريقة غير شرعية. يحكي بدقة تفاصيل ستة أشهر من التنقلات، قبل الوصول إلى وجهته الأخيرة. غادر لبنان أولاً، متجهاً إلى سوريا، ومن هناك شقّ في اليابسة طريقاً إلى تركيا ثم عبَر البحر. واجه الموت مراراً في عرض البحر، إذ دفع مبلغ 2000 دولار لأحد «كبار سماسرة المهربين» في تركيا، لإعطائه هو وعشرين شاباً (من مختلف الجنسيات) قارباً يتسع في الحالة الطبيعية لستة أشخاص، كي يوصلهم إلى الشواطئ الرومانية. يستذكر نهاد لحظة وطئت قدماه النمسا لاحقاً... قبل أن يصل إلى المحطة الأخيرة: بروكسل. يصمت نهاد قليلاً، يتألم عندما يذكر صور لشبان غرقوا في عرض البحر، ولم يستطيعوا إكمال مسيرة اللجوء. لا يلبث أن يدخل في موضوع «الأوراق» واللجوء في بلجيكا، يقول: «اعتدتُ أنّني لاجئ لا يملك أرضاً ولا هوية مواطن». لم يتغير شيء عليه، من الأراضي اللبنانية العربية إلى بلجيكا الأوروبية، تلسعه مرارة اللجوء نفسها. يعلن نهاد أنه تلقى رفضين متتاليين لطلب اللجوء الذي تقدم به، لكنه لا يفهم حتى اليوم سبب الرفض. ينطلق من هنا، ليطلق سلسلة من الانتقادات اللاذعة، بحق من يصفها «الدول التي تدّعي الحضارة وتتكلم عن حقوق الإنسان كبلجيكا». كانت صورة أوروبا تصل إليه، وإلى رامي وآخرين، على أنها «الخلاص والحياة الأفضل». كانوا يعتقدون أن المستقبل ينطلق من بروكسل أو باريس، لكن القانون صارم في هذه الدول ويناقض توهماتهم. كانوا يعرفون عن القانون ودقته في أوروربا، يقول نهاد، لكنه يردف قائلاً: «فليعطوني سبباً مقنعاً للرفض». يعتقد الشاب الفلسطيني أن البلجيكيين لا يريدونه بينهم لأنه «عربي». في مرحلة ما بعض الرفض لطلب اللجوء، تعود صورة القانون البلجيكي لتسوء في نظر نهاد، يقول: «بالطبع يحقّ لي استئناف الرفض بحسب القانون، لكنني لا أعلّق آمالاً على الاستئناف». يرى في عمل المحاكم صورة روتينٍ قاتلٍ، وشكل من أشكال الانتظار الفارغ، من هذا المنطلق فإنه يقوم بهذه الخطوة لإثبات وجوده في البلد فقط، وهو غير قادرٍ على مغادرتها شرعياً إلى دولة أوروبية مجاورة، فبحسب قانون اللجوء في بلجيكا «لا يحق لأي لاجئ أبداً مغادرة بلجيكا إلى أي دولة أوروبية مجاورة قبل حصوله على إقامة دائمة». أما «الإقامة المنشودة» فستسمح لنهاد بالتجول ومغادرة بلجيكا إلى دول أخرى، بما فيها الدول التي تُعرَف بين العرب بـ«دول شينغن» متى أراد ذلك بحريةٍ تامة، لكن أوراق الإقامة الشرعية في بلجيكا لا تخوّل نهاد السفر كيفما شاء إلى «بريطانيا التي ما زالت تشترط على حملة الإقامة في الدول الأوروبية أن يحصلوا تأشيرة الفيزا للدخول إلى أراضيها».
لا تتنوّع قصص «اللاجئين الجدد» من المهاجرين إلى أوروبا كثيراً. يتحدثون عن حالات معدودة، تجد في طياتها معاناتهم المشتركة مع السلطات الرسمية البلجيكية. عامر مهاجر منذ سبع سنوات، سرقه العمل، وأرهقه همّ البحث عن الفيزا منذ كان طالباً على مقاعد الدراسة. بسبب سوء الأوضاع المادية لم يتابع تحصيله الجامعي، فتوجه إلى العمل بعيداً عن اختصاصه بطريقة غير شرعية طبعاً. لا يُخفي عامر حسرته، يؤكد أن حلمه ما زال نيل الشهادة الجامعية. أصدقاؤه الذين وصلوا إلى بلجيكا بطريقةٍ شرعية، يزيدون في خيبته من دون أن يشعروا: «أنا الشاب الوحيد بين مجموعة لبنانية تتكون من 7 أشخاص، لم أستطع إبراز صورتي الجامعية أمامهم»، يقول متألماً.
ثمة وجه آخر للشباب اللبناني في بلجيكا. خلال سهرةٍ لبنانية عادية، لا مفر من الحديث عن «أحوال الفيزا» و«أوضاع الإقامة». أسئلة تقليدية تدور بين الشبان، الذين إذا خرجت نقاشاتهم عن تسوية أمورهم القانونية، يستحضرون أمثلة ومواد أوروبية للحوار. عدد كبير منهم يسخر من خطوة طلب الاستئناف للحصول على أوراق الإقامة، يرون أنّ هذه الخطوة إجراء شكلي لا بد منه، وهم يملكون وسائل أخرى للاحتيال على السلطات. إنها «طريقة كلاسيكية» يتحدث عنها اللبنانيون في بلادهم، ويجدون أن تطبيقها ليس سهلاً في بلجيكا، فلا شأن لكثير من الشبّان في بلجيكا، سوى البحث عن «عروس» للحصول على جنسية أوروبية. يرى علاء أن القوانين التي فرضتها الدول الأوروبية أخيراً، في قانون الزواج بفتاة أوروبية، هو خبر سيئ بالنسبة إليه. في السابق كانت مدة الزواج لا تدوم أكثر من سنة بسبب سهولة الاستحصال على الأوراق، أما الآن فأصبح الأمر أكثر صعوبة. بات على المهاجر أن يتزوّج الأوروبية لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات، وأن يكون «حسن السيرة»، أي أن «ترضى عنه» العروس كي يحصل على إقامة دائمة في البلد، كما يقول رامي بخجل، مردفاً أن الإقامة كانت تعطى للمتزوجين ببلجيكية بعد ستة أشهر من تاريخ إعلان الزواج. ويصف فراس الأمر بالطبيعي مع «وصول ساركوزي إلى سدة الرئاسة في فرنسا، وانعكاس النظرة الفرنسية في التعاطي مع المهاجرين غير الشرعيين على بلجيكا». يتحدث فراس كمواطن بلجيكي، ويُلمّ بأدق تفاصيل الحياة السياسية في البلاد، وهو يعدّ نفسه بلجيكياً، رغم أنه لم يحصل على الأوراق الثبوتية ولا على الإقامة الشرعية.


«إسرائيلية» تبحث عن «زوجٍ أبيض»

يعتقد كثيرون أن صعوبة الحصول على المستندات القانونية في أوروبا مشكلة تواجه المهاجرين العرب فقط، وخاصة أنهم أكثر من يتجه إلى خطوة «الزواج الأبيض» للحصول على الإقامة الدائمة، ومن ثم الجنسية. لكن الأمر ليس دقيقاً. فهذه المشكلة تواجه آخرين، ولا سيما الاسرائيليين. لين، فتاة يهودية تحمل الجنسية الإسرائيلية. ولدت في حيفا وترعرعت في الأراضي المحتلة، لكنها هاجرت إلى بلجيكا رافضة العودة إلى إسرائيل بسبب «الحروب المستمرة فيها». تحولت لين، كما معظم الراغبين في الحصول على جنسية أوروبية، إلى باحثةٍ عن رجلٍ بلجيكي للزواج به، وذلك للحصول على جواز سفر آخر غير الإسرائيلي. لا ترغب لين في الاستقرار في حيفا، مشيرةً إلى أن حلم الهجرة والهروب من حيفا هو حلم تتشارك فيه مع أفراد عائلتها أيضاً. والدها لم يتمكن من الحصول على عملٍ يمكّنه من الانتقال من إسرائيل إلى أوروبا نهائياً.
لين لم تستسلم. تبحث بكدٍّ عن «زوجٍ أبيض»، وإلا فستصبح مهاجرةً غير شرعية كأي فلسطيني يبحث عن ملجأ، بعدما فقد أرضه.