في تقرير ممتع عن السعادة وأحوال الشعوب، نشرته مجلة ناشيونال جيوغرافيك في عددها الصادر مطلع الشهر الجاري، جاءت الدانمارك وسنغافورة وكوستاريكا في قمة الدول التي يشعر سكانها بأقصى درجات السعادة. وعند تحليل أسباب هذا الكم من السعادة، تبين أن الناس هناك يشعرون بالأمان، ولديهم معنى لحياتهم، يتمتعون بحياة فيها القليل من التوتر والكثير من المتعة والفرح.
لا عجب أن يقبع لبنان في أسفل لائحة تضم 140 دولة يتحدث عنها التقرير.
قد لا يتعجب القارئ من سعادة الدانمركيات والدانمركيين ومن مثلهم في سنغافورة، لكن لم يكن ليخطر بالبال سعادة سكان بلد متواضع اقتصادياً وإنتاجياً مثل كوستاريكا. هناك في كوستاريكا فرق طبية تقطع عشرات الأميال يومياً لتتفقد صحة الناس في منازلهم في المناطق النائية ولتقدم لهم العلاج والدواء. أوجدت هذه الدولة سياسات اجتماعية وروابط عائلية ومحلية الى جانب رعاية صحية شاملة ومتساوية وتأمين أسباب معيشية لكل السكان، الأمر الذي جعلهم مطمئنين إلى أوضاعهم وغير قلقين على مستقبلهم، وهو ما منحهم الشعور بالسعادة.
قد يكون الشعور بالأمن الصحي والأمان الرعائي من أهم أسباب الشعور بالسعادة، لكن هناك أيضاً من مشارب الحياة ومآربها ما يجعل الناس سعداء. فمن وجهة نظر طبية بحت، تبين مؤشرات دراسة "المليون امرأة" في بريطانيا أنه، ورغم أن الأمراض المزمنة تسبب عدم السعادة، لم يظهر أن عدم السعادة يؤثر مباشرة على نسبة الوفيات (إلا إذا أدّى غياب السعادة إلى سلوكات حياتية خطرة ومميتة). لا يُفرّق الموت بين السعداء والتعساء على ما توحي به الدراسة.
كلما انغمس الفرد في مبدأ إبيقوروس كلما ازداد شعوره بالسعادة وتحسن مستوى صحته. يدعو إبيقوروس الى أخذ ما يزيد الفرح والمتعة ويقلل الحزن والألم. بنفس المقاربة يدعو الفيلسوف أرسطو الى مبدأ "اليوديمونيا"، أن تعرف نفسك وقيَمِك تمام المعرفة وأن تفعل ما يفيد غيرك ومجتمعك. حَضرت هذه المؤشرات في واحدة من أهم الدراسات عن السعادة والصحة والتي قام بها الباحث مارتين ساليمان من بنسلڤانيا، مشيراً الى دروب السعادة الثلاث: الشعور الإيجابي والجيد، الشغف والانغماس بالنشاطات، وعمل الخير.
فاجأ ساليمان الجميع عندما أخبرهم أن المال والسلطة والجاه والمقتنيات المادية والشباب (الطبيعي والمفتعل)، والأطفال قد يساهموا ببعض المتعة والراحة، لكن لن يجعل منكم أشخاصاً سعداء. هنا قد تتداخل العوامل الاجتماعية والثقافية والدولتية لتعطي بعض الناس انطباعات مختلفة عن إدراكهم لما يجعلهم سعداء ومعافين. لكن الكل متفق على أن المشاعر الإيجابية والمزاج الجيد يرفع مستوى الصحة والعافية.
تشير دراسة في مجلة لانسيت عن تقرير "سعادة العالم" الى أهمية فهم ترابط الصحة والسعادة وتدعو الى التركيز على مجالين مفصليين: الأول يدعو إلى خفض الوفيات المبكرة عند الأطفال وقبل سن الـ٧٠، عن طريق تعزيز الصحة والشعور بالسعادة، والثاني يدعو الى تخفيف الفوارق والتمييز المتعلق بالوصول والحصول على رعاية صحية جيدة، من ضمنها الصحة النفسية والعقلية.
كل التقارير والدراسات تؤكد على دور الدول في إسعاد شعوبها، ويزداد الحديث عن "سياسات للسعادة". أصبح في بعض الحكومات وزارات للسعادة (الإمارات العربية المتحدة مثالاً) تكفل ما يُسعد المواطنين لا ما يُبعدهم ويُهجرهم. إن أول ما ترمي اليه "سياسات السعادة" وضع قوانين وبرامج وأنشطة تمنع تراكم السموم القاتلة ليس فقط من التلوث، بل أيضاً السموم المنبعثة من الضغوطات اليومية والتعصيب اليومي واكتئاب المواطن وغياب معنى وجود الفرد وأمانه، كلها مسائل تزيد من معدلات الاعتلال والموت المبكر.
لبنان يقبع في أسفل لائحة الدول السعيدة. يحتاج الأمر الى أكثر من وزارة للسعادة. يحتاج الأمر الى خارطة طريق لم توجد بعد.
* اختصاصي جراحة نسائية
وتوليد وصحة جنسية