لو جعلك القدر من مواليد البلدان الغنية والمتطورة، كان نصيبك عُمراً أطول وصحة أفضل. في تلك البلدان، سبعون بالمئة من وفياتها تحصل في عمر متقدم وغالباً من مضاعفات أمراض الرئة والقلب والسرطان والسكري والخَرَف. هنا صحة الاطفال والشباب بخير حيث لا تتجاوز وفيات الاطفال تحت سن الخامسة عشر 1%.
أما اذا جعلك القدر من مواليد البلدان الفقيرة أو المحدودة الموارد واللامحدودة الفساد، فستكون من ضمن 80% من الأموات الذين لن يحتفلوا بعيد ميلادهم/نّ السبعين، وسيفقد 4 أطفال من أصل 10 حياتهم قبل بلوغهم الخامسة عشر عاماً.
في هذه البلاد المكلومة، يستمر الناس في خسارة أرواحهم وأرواح أطفالهم جراء حالات مرضية يأتي بها الفقر والجهل والتخلف. من الالتهابات البسيطة يموتون ومن الإسهالات والحوادث والملاريا والسل وغيره.
في لبنان ولوقت ليس ببعيد، كان أطفال الأرياف والأطراف يموتون بنِسَب أعلى من مواطنيهم أطفال المدن. كانت فروقات معدلات وفيات المواليد والأطفال فاقعة تقارب الثلاثة أضعاف بالرغم من صغر المساحة وقرب المسافات. قلص جهد وزارة الصحة والمعنيين الفارق الى حدٍ كبير.
هكذا إذاً، حتى في معدلات الصحة والمرض يمتاز الأغنياء عن الفقراء، وتزيد فجوة هذا الامتياز فجوراً كلما ازدادت "سلعنة" الصحة، وكلما ازداد "تفقير" المرض. إن مجرد التفكير أو التعليل أن هناك حيوات قيمتها أقل من حيوات أخرى، هو أصل الخطأ القاتل في التقديمات الصحية في هذا العالم.
يتقدم الطب خطوة وتتراجع صحة الفقراء خطوات، في دراسة صادرة حديثاً تبين أن الفقراء أو ذوي الدخل المحدود لا يخسرون أجورهم فقط، بل سني أعمارهم وأعمار أولادهم مقابل الأغنياء. قفزت فجوة معدل الأعمار بين الأغنياء والفقراء من خمسة الى أربعة عشر عاماً منذ السبعينيات. تعزو الدراسة الفارق الى سلوكات الحياة المرهقة وغير الصحية وغياب الدعم الصحي للفقراء. لكن الجواب الحقيقي يبقى في الفروقات الاجتماعية والاقتصادية والتي لا يقدر التطور الطبي على إصلاحها.
يزداد التطور الطبي تعقيداً وتخصصاً ومعه تنتفخ الفواتير الصحية أمام جيوب الفقراء الفارغة أصلاً، واضعة الطبيب والنظام الصحي أمام تحديات أخلاقية مقلقة وجدية.
في الأساس الأطباء وكلاء الفقراء وفي الأساس لا يحق لوم الفقير على لعبه دور الضحية إذا ما أعطي له مسبقاً ما هو حقه بالأساس: الرعاية الصحية ومشاركته في سياسات الوقاية.
يتوافد خبراء الوقاية والرعاية الى قاعات المؤتمرات الفخمة ليرسموا سياسات دون حضور مندوب عن الفقراء او الضحايا، يُسقطون عليهم توصيات تشبه نصائح ماري أنطوانيت، وتطلب منهم تغييرات لا قدرة ولا إمكانية لهم للقيام بها.
في الوقت نفسه، وفي زمن آخر، ولأن الصحة في صلب حقوق الإنسان، يترك طبيب اسمه بول فارمر رفاهية وترف مستشفيات وكليات هارفرد ليذهب الى هاييتي ليشفي من أمراض معدية وليعيش أيضاً في أصعب مناطق أفريقيا. كتب في الصحة والحقوق والتمييز ما يجب أن يتعلمه كل تلميذ طب وكل طبيب كي لا ننسى أن الصحة حق وليست سلعة.
في كندا وبعض البلدان المتقدمة، يمكن لمقدمي الرعاية أن يلعبوا دوراً أكبر في صحة الفقراء دون الطيران أو الإبحار الى أحزمة العالم البائسة. تم تطوير "رزمة الفقر" من ضمن الملف الطبي حيث تطلب من الطبيب أن يسأل مرضاه عن مدخولهم ووضعهم المادي وأحوال معيشتهم لترشيد الأعمال الطبية. تطورت هذه الآلية لتصبح في صلب دور الطبيب لدعم صحة الفقراء.
عندما يأتي المريض الى الطبيب حاملاً مرضه من البيئة وسلوك الحياة التي سببت المرض، تُجرى له الفحوصات ويُعطى الأدوية ثم يعود الى نفس البيئة التي سببت له المرض بالدرجة الأولى.
هنا التقنيات الباهرة لا تنفع. هنا لا ينفع إلا التفهم الكامل لأحوال الناس والقناعة الصلبة أن صحة العامة حقٌ وليست خدمة سياسية أو انتخابية.
* اختصاصي جراحة نسائية
وتوليد وصحّة جنسية