قبل أقل من شهر، أوصت الجامعة الأميركية في بيروت طلابها وأساتذتها بعدم السباحة عند "شاطئ الجامعة"، الواقع في عين المريسة. يومذاك، صدر هذا القرار، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، بعد إجراء الجامعة فحوصاً ميكروبيولوجية للمياه هناك، ليتبيّن على إثر النتائج أن نوعية المياه "أعلى بقليل من نوعية مياه الاستحمام"، حسب ما أشار فاروق المرعبي، مدير دائرة الصحة البيئية والسلامة ودائرة المخاطر في الجامعة.
من هنا، كانت النصيحة بعدم النزول إلى الشاطئ لحين "تغيّر النتائج". هذه العينة التي أجرتها الجامعة، والتي كانت حصراً لشاطئها، يمكن بسهولة بالغة تعميمها على جلّ ما يحصل في مياه لبنان كله، المجبولة بعصارة النفايات المتسربة إليها من المطامر التي استحدثتها الدولة لطمر فضيحتها. فهنا، عند شاطئ الجامعة، قامت الأخيرة بواجبها في حماية صحة طلابها. وهي تقوم، في كل أسبوع، بفحص المياه انطلاقاً من هذا الواجب. أما مياه الشوطئ الممتدة على طول الساحل اللبناني، فمتروكة للمشيئة الإلهية. لا يأبه أحد لفحص المياه التي يسبح بها أطفالنا. وفي هذا الإطار، يشير الناشط البيئي بول أبي راشد، في حديثه إلى أحد المواقع الإلكترونية، إلى أن القول بأن "هذا الشاطئ آمن للسباحة وآخر ملوّث هو ضرب من الخيال". ويعطي مثالاً حول هذا الأمر، لافتاً إلى أنه "عندما تمّ قصف معمل الجية في عام 2006، تلوثت الشواطئ اللبنانية كافة، بسبب الفيول الذي تسرّب". أما، كيف ذلك؟ يقول بول أبي راشد إن "التيارات البحرية قادرة على حمل الملوثات معها أينما حلت". والدليل؟ "التقرير المصوّر الذي أعدته إحدى المحطات الأجنبية والذي أظهر مثلاً كيف أن نفايات مكب صيدا كانت تصل حتى تونس، ما يعني أن تلوث المياه لا حدود له".
لا يختلف مفعول التلوث ما إذا كان مصدره الفيول أو المطامر، فالنتيجة واحدة: بحر مريض لا يصلح حتى... للاستخدام. هذه المياه المجبولة بعصارة النفايات وبالمواد السامة تقضي شيئاً فشيئاً على الثروة البحرية، كما تقضي على كل أملٍ بالحصول على بقعة مياه صالحة للسباحة. ولئن كانت الجامعة الأميركية قد أعلنت في فحصٍ آخر أن المياه آمنة، من يضمن في الفحص الآتي أنها ستكون كذلك، في ظلّ التصاقها بمطمر الكوستابرافا؟ أما السؤال الأهم من كل ذلك: ماذا تعني السباحة في بحرٍ ملوّث؟
في كل عام، تقوم وزارة الصحة الفرنسية بأخذ عينات من مياه الشواطئ لتجري فحوصاً ميكروبيولوجية عليها. وقد قامت هذا العام بأخذ 33 ألف عيّنة للفحص. وبعيداً عن النتائج التي توصلت إليها، من المهم الإشارة إلى كيفية قياسها لتلك النسب، حيث تعتمد على مؤشرين من "التلوث البرازي" لتقييم واقع المياه، وهما: مياه الصرف الصحي الآتية من المنازل وفضلات الحيوانات أولاً والنفايات السائلة التي يتم تصريفها في مياه البحر أيضاً.
وبما أننا نتحدث على المقياس اللبناني، فمن الطبيعي وجود هذين المؤشرين في مياه الشواطئ، ولسنا بحاجة إلى إيراد أدلة عن كيف تحوّل البلديات مياه صرفها الصحي نحو البحر ولا عن النفايات المطمورة في البحر. هذه المؤشرات ستقود بلا شك إلى تأثيرات كبيرة على صحة الإنسان. فكلما كان وجود هذه المؤشرات عالياً، كلما زاد احتمال وجود الجراثيم بشكلٍ أكبر في مياه السباحة. وتتنوع ما بين العدوى الجرثومية مثل "السالمونيلا" و"الشيجيلا"، والعدوى الفيروسية مثل "الفيروسات المعوية"، وهي الأكثر شيوعاً هنا و"التهاب الكبد الفيروسي A"، والتي تؤدي بشكلٍ عام إلى التهاب المعدة والأمعاء والالتهابات الفطرية. وثمة أعراض أخرى تسببها المياه الملوثة منها اضطرابات العين والأنف والحنجرة والتهاب الجلد.
هذا في المجمل. أما ما يمكن تفصيله هنا، فيمكن الحديث مطولاً عن أضرار ومخاطر المياه الملوثة على صحة الإنسان، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
• تسمم الأحياء المائية الموجودة في المياه نتيجة تزايد كمية المواد الكيميائية الملوثة.
• تناقص الأوكسجين المذاب في المياه، الأمر الذي يؤدي إلى تناقص الأحياء المائية نتيجة التلوث من الصرف الصحي والكيماويات الصناعية والزراعية.
• ازدياد وكثرة الطفيليات والبكتيريا يجعل هذه المياه غير صالحة للسباحة أو الري أو حتى التنظيف.
• صعوبة اختراق الضوء لسطح المياه نتيجة تغطية السطح بالملوثات يؤدي إلى تضرر الأحياء المائية تحته.
• ظهور الكثير من الأمراض الناتجة من التلوث مثل الربو والحساسية في الصدر وأمراض السرطان والأمراض الجلدية وأمراض العيون واضطرابات المعدة وتضخم الكبد وفقدان الذاكرة والخمول والتبلد والنزلات المعوية والتيفوئيد والإسهال والجفاف والكوليرا والتسمم.
• ظهور أطفال مشوهين بسبب تدمير خلايا الوراثة.
• زيادة احتمال وجود العناصر التي تؤثر على الدم والمخ والعظام ومنها الرصاص والزئبق والزرنيخ والحديد والكلور والفلور والكاديوم والأمطار الحمضية والمفاعلات النووية والمواد الكيماوية والنفط ومياه الصرف الصحي والمبيدات الحشرية والبلاستيك.
• امتداد مدة مكوث المخصبات الزراعية الكيميائية إلى مدى طويل في التربة ما يؤثر في تلوث المياه.
• زيادة نمو الطحالب والنباتات المائية في المسطحات المائية كالبحيرات الملوثة بالصرف الصحي يؤدي إلى انتهاء الأوكسجين مما يقضي على الأسماك والكائنات البحرية.
هذه عينة مما قد تحمله لنا المياه الملوثة. عينة تكبر يوماً بعد يوم في مياه الشواطئ اللبنانية التي باتت مطامر للنفايات. ويستوجب كل هذا المعالجة السريعة، وهو ما نعجز عنه نحن. ويبقى السؤال عالقاً: من يحمي أطفالنا من مياه بحرنا الملوث؟