تكثر في الآونة الأخيرة الدراسات التي تعنى بتحليل ظاهرة التوتر النفسي في العمل، نحن أمام «ضحايا» عدم القدرة على تقبل النظام، أو العنف الوظائفي من رب العمل، أو الروتين اليومي، أو الضغوط المالية... ومن المتوقع أن تصير نتائج الدراسات عاملاً مؤثراً في الصحة العامة

باريس ـــ خضر سلامة
تعرّف المفوضية الأوروبية التوتر النفسي المرتبط بالعمل بأنه «حالة من ردات الفعل العاطفية، الإدراكية والفيزيولوجية السلوكية، على جوانب قاسية وضارة من جوانب العمل في مؤسسة أو بيئة ما، هذه الحالة تتميز بدرجات عالية من الأرق والقلق، وغالباً بالإحساس بعدم القدرة على الخروج من هذه الحالة».
هذا التعريف نشر في كتيب «نكهة الحياة أو الضربة القاضية؟» الذي صدر عن مكتب المنشورات الرسمية في المفوضية عام 2000، والذي يشير إلى نتيجتين تخرجان عن الإصابة بالتوترات النفسية في العمل، نتيجة إيجابية، وهي أن الضغط النفسي قد يثير العامل، ويدفعه لإيجاد طرق لمواجهة المقتضيات الضرورية لعمله، والنتيجة الثانية وهي الأعم، سلبية، بتحويل العامل إلى شخصية عدوانية، ويمكن أن تؤثر على صحته الجسدية.
إذاً، التوتر النفسي في العمل يمكن أن يتحول إلى عامل مقلق للعمل والصحة، ولكنه في الوقت ذاته ظاهرة اجتماعية أسبابها واسعة، فحسب دراسة أجراها معهد TNTsoffres في نيسان 2006، فإن التوتر النفسي الناتج من العمل يصيب 44 في المئة من الفرنسيين على سبيل المثال، 18 في المئة من الحالات المرضية تكون متقدمة، الضحايا الأهم للتوتر هي المرأة بنسبة تشمل 55 في المئة من العاملات، بينما تتراجع النسبة لدى العمال الرجال إلى 34 في المئة.
وحسب المعالج النفساني باتريك لوجيرون، فإن أسباب التوتر النفسي الأساسية عند النساء تتراوح بين تدني الأجور، والسلطة المحدودة في العمل، إلى جانب تكوم الأعمال المنزلية إلى جانب الوظيفة اليومية، ويتابع لوجيرون شارحاً أن الضغوط النفسية في العمل عند الرجال والنساء على حد سواء تتضاعف في الوظائف التي تعنى بالعلاقة المباشرة مع الناس، كمندوب المبيعات على سبيل المثال، أو موظف البنك أو العامل في النقل العام، بحيث يتزايد الشعور بالملل، أو بقلة الثقة بالنفس عند التعامل مع الآخرين، أو بالذل عند الاصطدام بمعاملات معهم، ما يحوّل الموظف شيئاً فشيئاً إلى كائن عدواني، لوجيرون يؤكد أن اليوم العالمي لمواجهة حالات الانتحار يشير، عاماً بعد عام، إلى روابط متزايدة بين الانتحار والحياة المهنية، لوجيرون يذكّر بأن حالات التوتر النفسي من جملة أسبابها هي الضغوط الاجتماعية أصلاً، كغلاء المعيشة والتنظيم التربوي لأطفال الأسرة والعلاقات العائلية، والمرتبطة بنسب مختلفة بقوانين العمل وبعلاقة جدلية بطبيعة الوظيفة المشغولة، لتتراكم إلى جانب العوامل الباقية، وتثير حالات متقدمة من الإحباط أو الأرق أو القلق والتوتر والعدوانية، وفي حالات أقسى، الاكتئاب.
الدكتورة في علم النفس نيكول أوبرت تثير، من جهتها، سبباً مدهشاً لارتفاع مستوى الضغط النفسي اليومي في العمل، وهي القوانين التي تحدد ساعات العمل، والأعمار القانونية للعمل، من حيث إجبار الفرد على التوقف عن العمل في عمر معين، أو على التوقف اليومي في ساعات الاستراحة، هذه التفاصيل تساعد، حسب أوبرت، في تكوين شعور لدى الموظف بالـ«مكننة»، بحيث يشعر بأنه ذو صلاحية محدودة، أو مبرمج في روتين مكرر، «أكاد أجزم بأن معظم الثورات التي شهدها العالم والتي قامت على يد العمال والموظفين ضد قطاعات العمل وأربابه بمختلف العصور، كانت مرتبطة بالتوترات النفسية التي أحدثها نظام العمل ولو بأشكال مختلفة». أوبرت ترى أن ارتفاع نسب التوتر النفسي في دول متقدمة من حيث القدرة الاقتصادية والمالية والخدماتية للمواطن، كاليابان أو السويد، هي دليل على أن هذه الظاهرة لا ترتبط حكماً بالناتج المادي للعمل، بل بطبيعته من جهة، ومن جهة أخرى بالحياة الاجتماعية والأسرية والثقافية الموفرة ووسائل الترفيه والإحساس بالمواطنية.
ماذا عن سبل مواجهة هذه الظاهرة؟ يشير المراقبون والمهتمون إلى أن الأهم في مجال مكافحة التوتر النفسي في العمل، هو مساعدة المصاب ليستعيد ثقته بالنفس، سواء عبر التقديمات التي تكون من مسؤولية المؤسسة العامل فيها، أو النقابات التي ينتمي إليها، ومن ثم تقع المسؤولية عليه هو نفسه، في متابعة حالته والخروج من قوقعة العمل والاهتمام بالجانب العاطفي والفني أو الرياضي أو الثقافي لديه، حسب عالم الاجتماع آلن إرينبيرغ، الذي يرى أن المشكلة تكمن في كل تفاصيلها في ظاهرة «إرهاق الأنا».
ومهما تعددت التأويلات والأسباب والنتائج، تبقى ظاهرة الضغط النفسي والتوتر المرتبط بالعمل، ظاهرة تشهد اهتماماً متزايداً من جانب المؤسسات والمعاهد العالمية، في ظل تضخمها مع عالم التكنولوجيا المتقدمة التي تحصر العامل أكثر فأكثر في يوميات ممكننة، وفي تناقضات بين عالم الوظيفة وعالمه الخاص الخارجي، ما يهدد صحته النفسية والجسدية الفردية، والصحة الاجتماعية العامة أيضاً.