اكتُشفت أربعة أعمدة رومانية منحوتة من الغرانيت في مخيم نهر البارد، ما أبرز حقيقة تتغاضى عنها الدولة منذ 60 سنة. وبمعزل عن الإشكالات السياسية والعناوين الإنسانية المتعلقة بالمخيم، بات في الصورة بُعد أثري أيضاً
جوان فرشخ بجالي
بين أنقاض بيوت مخيم نهر البارد أعمدة رومانية منحوتة في الغرانيت. إنها الآثار التي اكتُشفت خلال عملية رفع الأنقاض التي جرت في الأيام القليلة الماضية، وفتحت باب جدل جديداً على مصراعيه، ولا سيما أن المكان مخيّم للاجئين الفلسطينيين. وحينما عُثر على تلك الأعمدة الرومانية، أَبلغ الجيش اللبناني المديرية العامة للآثار بالاكتشاف، فتوجّه فريق من المختصين إلى المخيم، وكشف على المنطقة وحدّدها جغرافياً. وكان الاتفاق مع الجيش يقضي بعدم التوسّع في جرف الردم وعدم الغوص عميقاً في تلك المنطقة، كي لا تُنبش الآثار أكثر، وبدأت المشاورات بشأن هذا الملف الشائك والحسّاس.
فهناك الجانب الإنساني، ما هو مصير آلاف المهجّرين الذين ينتظرون منذ أشهر، عودتهم إلى بيوتهم، والخلافات تؤخّر الإعمار. وإذ يفتح ملف الآثار على أرض المخيم اليوم بعدما بدأت إعادة إعماره رسمياً، يتخوّف كثيرون منهم أن يكون ذلك بمثابة «القشة التي تقصم ظهر البعير». هكذا، من المرشح أن يرى المطالبون بإعادة إعمار المخيم بأسرع ما يمكن، أن ملف الآثار «ملفّق» لإعاقة المشروع، فيما سيجد بعض معارضي إعادة الإعمار أن الاكتشاف حجة لبناء ملف جديد، وبذلك، يكون الموضوع قد وقع في شرك السياسة اللبنانية، ما يعني أن البعد الأثري والعلمي مرشح ليكون ضحية.
فالأرض التي يقع عليها المخيم تل أثري سكنه الإنسان منذ آلاف السنين، وخلّف فيه ما يخبر عن تاريخه، لذا ماذا سيكون مصير تلك المكتشفات الدفينة في الأرض، هل ستدفع ثمن «تفادي المعمعة والبلبلة»، ويُغضّ النظر عنها؟ أم أنه سيُعمل على إيجاد حل وسط يرضي جميع الأطراف؟
القرار ليس في يد المديرية العامة للآثار التي ترفع تقريرها إلى وزارة الثقافة، حيث تُبتّ القرارات وتقرّر الإجراءات، فإذا اقتضى الأمر أحيل على مجلس الوزراء.
القرار شائك وصعب، لذا كان لافتاً كيف تلاقت الجهات العاملة في نهر البارد على مبدأ «تفادي موضوع الآثار». فاللجان العاملة في المخيم، من الأونروا إلى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلى الهيئة الأهلية لإعادة إعمار المخيم، كلها علمت بالاكتشاف، وبعضها رأى بالعين المجردة الأعمدة الرومانية، والجميع اتفق على عدم إثارة الموضوع في الإعلام وإبقاء التداول والقرارات في شأنه ضمن الدوائر الرسمية المغلقة.
فما العمل؟ هل سيجري التعامل مع الموضوع كأن الاكتشاف أمر لم يحصل؟ وتالياً، يُعاد بناء المخيم في مكانه القديم، وتكون الأبنية فوق سطح الأرض، أي لا يجري الحفر والبناء تحت الأرض، كما هو مطلب الجيش، ما يعني إعادة دفن الآثار وعدم التعرّض لها؟ هذا الحل مطروح، لكن، ماذا عن أساسات الأبنية؟ هل سيراقب علماء الآثار الورشة للتأكد من رفع الآثار في أماكن البناء؟ كما حصل في بيروت، مثلاً، في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، للحفاظ على الآثار تحت الأبنية. وهل من ضمانات بأن مكان إعادة بناء المخيم لن يتحول إلى موقع ضخم لسرقة الآثار عبر الحفر داخل البيوت، تماماً كما في السابق.
قانونياً، المادة الأولى من قانون الآثار تقضي بإخلاء الموقع من سكانه واستملاك الأرض من جانب الدولة، ما يعني تغيير مكان إعادة بناء المخيم. أمرٌ سيُرفض إذا ما نُظر إليه من الزاوية الإنسانية والاقتصادية أيضاً، إذ هناك آلاف العائلات تنتظر منذ أشهر مصيرها، والدولة اللبنانية التي استملكت أرضَ المخيم بهدف إعادة بنائه عليها لن يكون في مقدورها العدول عن خطتها، وربما لن تقبل بذلك.
لذا، يجب العمل على إيجاد حل عصري بين الآثار وإعادة الإعمار، فماذا لو عُدّ مخيم البارد مثل أي عقار خاص تشيّد عليه الأبنية ويعثر فيه على آثار؟ ففي هذه الحال يتحرك فريق من المديرية العامة للآثار ويبدأ حفريات الإنقاذ، لكن، ضخامة الموقع ستتطلب تحديد المناطق المهمة أثرياً وإبعاد البناء عنها، والعمل على إدخالها في المخطط كمساحات خضراء لإبقاء الآثار دفينة، ثم يُلحظ في ميزانية مشروع إعادة الإعمار مبلغ للتنقيب على الآثار، فيدخل ضمن جدول عمل تدريجي، ويقسّم المخيم إلى مناطق تُحدد المساحات التي تبنى أولاً، فتبدأ فيها حفريات الإنقاذ، وحينما ينتهي فريق التنقيب يبدأ الإعمار في هذه المنطقة بينما يذهب الفريق إلى منطقة أخرى، أما المكتشفات، فيمكن أن يوضع لها مشروع يدخل في مخطط إعادة الإعمار.
يبقى السؤال، لمَ المحافظة على آثار نهر البارد، ما هي أهميتها، وهل يختلف الموقع عن غيره؟ يجيب أحد الاختصاصيين: «نهر البارد تل أثري معروف منذ بداية القرن الماضي، وهو مدينة كانت مسكونة منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وقد ذُكرت في رسائل تل العمارنة (في مصر الفرعونية)، وعُرفت حينها بمدينة «علازا». ولعل تلك المدينة كوّنت مع موقع عرقا نقطة وصل مهمة بين جبيل ومدن الداخل السوري. فلو أُقيمت عليها حفريات أثرية صغيرة (ولو أسباراً) لتمكّنا من تحديد الحدود الجغرافية لهذا الامتداد التجاري».

بروتوس ... البارد


لا يبعد نهر البارد عن موقع عرقا الأثري إلا بضعة كيلومترات قد يكون أحد مراكز الاستيطان الأولى، وربما سكنه الإنسان بلا انقطاع منذ نحو 7000 سنة. وأهالي المخيم مدركون الآثار الدفينة في الأرض، فخلال الحرب الأهلية كان البارد يزوّد سوق الآثار بالقطع المكتشفة، وبخاصة بالعملات التي صُكّت في المدينة، والتي تحمل اسمها الروماني «أرتوزيا».
وعن الآثار التي كانت ظاهرة في بداية القرن الماضي كتب ريني دوسو في كتابه «طوبوغرافيا تاريخية لسوريا القديمة والعصور الوسطى» (Topographie historique de la Syrie Antique et Medievale)، الذي نُشر في باريس سنة 1927: «ارتوزيا مدينة بحرية ذات أهمية ثانوية بما أنها لم تصكّ عملاتها حتى القرن الأول بعد الميلاد. وتبدو آثارها على الضفة اليسرى لمصب نهر البارد. وفي الجهة المقابلة، تماماً خلف الجسر الذي كان حتى القرن الخامس عشر يعرف باسم جسر ارتوزيا كان هناك «خان عبدة»، حيث تتوقف القوافل. وفي الفترة الرومانية تلك كانت نقطة تبديل الحيوانات تعرف باسم «تبديل بروتوس»، وهي على الخط الذي يصل مدينة بوردو الفرنسية بالقدس. ما يشير إلى أن اسم البارد يعود إلى الفترة الرومانية. ويقول دوسو إنه كان لمدينة أورتوزيا معبد للإلهة عشتروت وقد رُسم شكله على العملات التي صكّت في المدينة» (الترجمة خاصة وغير رسمية). يبقى الأمل في ألّا تُطرح حلول ترى أن المحافظة على المواقع الأثرية ليست من أولويات الدولة. وتعاد المقولة: «ها هي آثار بيروت قد رُميت في البحر، وهل سيُكتب تاريخ لبنان اليوم من البارد»؟
الحلول الوسطى ممكنة، صحيح أنها مكلفة وتتطلب وقتاً وجهداً، لكنها، بالطبع ستعطي مخيم البارد وجهاً لم يكن يعرفه من قبل. مبانٍ حديثة، ساحة خضراء وآثار مكشوفة للزوّار؟ فسحة أرضٍ تحمل تاريخها وتظهره فيفخر به كل من سكن المكان. محاولة التوصل إلى حل يرضي الجميع، هي بالطبع تحدٍّ جديد يفرض نفسه على العاملين في ملف البارد من القطاعات كلّها.