فادية حطيطريجيو إميليا بلدة إيطالية جميلة وهادئة تقع في شمالي شرق إيطاليا. حين مشيت في شوارعها خطر في بالي أنها تشبه إلى حد كبير وسط مدينتي بيروت أو «الداون تاون» كما يسميه البعض، ولكنها تختلف في كون مركزها أكثر حيوية ويعج بالناس. أما وسط بيروت الذي هو بمثل جمال تلك البلدة، والكثير من أبنيته هو على حد علمي على الطراز الإيطالي نفسه، كما أنه رمّم وجُمّل من وقت قريب ويمكن بسهولة القول إن «الداون تاون» عندنا «أحلى» من عندهم، إلا أنه يبدو هادئاً حتى الكآبة. وبالتأكيد ليس الفارق في وضع الناس الاقتصادي بيننا وبينهم هو السبب، لأن لدينا مناطق فيها حيوية شديدة، كما الحمراء والجميزة وفردان وغيرها. ورأيتني أقارن فأجد احتمالات متعددة. فكّرت مثلاً أن وسط مدينتنا يبدو محصوراً بميسورين فاضت أموالهم فوضعوا بعض ما فاض لديهم منها في شراء مكان فيه ثم نسوه. تركوا مالهم في جدران البيوت الجميلة كما لو أنهم اقتنوا لوحات جذابة، أو كما لو أنهم وضعوا مدّخراتهم في خزينة في مصرف وأقفلوها، ثم ذهبوا إلى حيث هم متآلفون وإلى حيث هو عيشهم الأصلي. فيما وسط تلك البلدة الإيطالية، مع هندسته الجميلة وأقواسه المرتفعة كما أقواس المعرض، يبدو متاحاً للناس جميعهم. تجد فيه أماكن للميسورين وبيوت ذات حدائق رائعة، ولكن فيه أيضاً أماكن بسيطة، وفيه محال تبدو مخصصة لأناس يفكرون كثيراً قبل أن يصرفوا المال. وحين تسير تسمع الناس المستعجلين حولك يتكلمون بلغات عديدة، الإيطالية، وأيضاً العربية ولغات لا أعرفها. في وسط مدينتنا تبدو الحياة ضئيلة، إنها مخصصة لبعض النهار، لبعض الوقت، لبعض الأشهر، لبعض الأمكنة، لبعض الناس. أما هناك في وسط مدينتهم فتبدو الحياة متسعة، تمتد نهاراً وليلاً، كل الوقت، كل الأشهر، وتضم كل الناس، من بسطائهم إلى ميسوريهم، ومن نخبهم إلى عامتهم. ثم إن وسط مدينتنا لا يشبه إلا نفسه. فأنت ما إن تخرج قليلاً عن حدوده حتى تصبح البيوت والشوارع والناس والأشجار شيئاً آخر، كما لو أنك كنت في بلد آخر وعدت. بينما عندهم لا يظهر وسط بلدتهم كبؤرة مسيجة، بل هو جزء من نسيج واحد يلف المجتمع بأكمله ويحضن وسط المدينة كما يحضن الضواحي القريبة والبعيدة. وابن البلدة الذي يعيش فيها، مثله مثل الغريب القادم إليها في زيارة، لن يلحظ ذلك الاختلاف الفاقع ما بين الوسط ومحيطه. وبالطبع ليس معنى ذلك ألا اختلاف في المستويات الاجتماعية التي تعكسها الأمكنة المتنوعة في تلك البلدة، إذ يكفي بعض التدقيق في النظر ليجعلك تلاحظ وجوده، ولكنه اختلاف لا يكسر التناغم ولا يعيق وحدة الانتماء.
أما هل هم متعلقون ببلدتهم أكثر من تعلقنا، فهذا ما لا يمكنني التكهن به. ولكن اللافت أنهم يعبرون عن ذلك التعلق بطرق متميزة. سأكتفي بمثال واحد ولكنه صارخ. في الروضات والحضانات التي أنشأتها البلدية هناك، يخبرونك أنهم استوحوا برامجهم التربوية من فكرة البياتزا، أي الساحة المربعة الموجودة في مختلف أماكن المدن الإيطالية. أما كيف يفعلون ذلك فلهذا شرح متصل!