لا تحتاج عطور كريستيان ديور إلى التذكير بها، كذلك الأمر بالنسبة إلى أزيائه. المصمم الفرنسي الشهير حفر اسمه في سجل ذهبي لصانعي الأناقة. رحلة إلى المنزل الذي ترعرع فيه، تكشف للزائر مصادر الإلهام الأولى لهذا الفنان
باريس ــ جلنار واكيم
هل تساءلت يوماً عن الطريق التي اجتازها عطرك قبل أن يدخل في قواريره، وقبل أن تشتريه؟ ما هي الزهور المستخدمة في هذا العطر أو ذاك؟ ولماذا اخترناه؟ لا شك في أننا فقدنا علاقتنا بالزهور مقارنة بأجدادنا. باتت شركات العطر تعطينا نماذج مكتملة، وبتنا نحن نكتفي بالشمّ. أحب هذا ولا أحب ذاك. هذا سكري جداً، هذا قوي وهذا خفيف، وننسى الزهور في كل ذلك.
لم أكن أنا أيضاً لأفكر بمصدر الزهور عند اختيار عطري، قبل أن تنبّهني إلى روعتها صديقة شغوفة بعالم العطور. ذات يوم، قالت لي إنها متوجّهة إلى حديقة كريستيان ديور. لم أفهم قصدها، شرحت لي: «إنه منزل كريستيان ديور عندما كان طفلاً، وفيه تكوّنت معالم شخصيته. من هناك انطلقت أزياؤه وتصاميمه، وهناك كوّن أول علاقة له مع الروائح والزهور »... هكذا حملني القطار في رحلة من القارورة في المتاجر الباريسية إلى الزهور في حديقة ديور.
في مدينة غرانفيل الواقعة قرب النورماندي، يقع منزل طفولة كريستيان ديور. غرانفيل من أجمل المدن في فرنسا. يصفها ديور في مذكراته التي صدرت عام 1951 بأنها كانت تُسمى «موناكو الشمال». تتميز بمرفأ صغير وتبقى هادئة معظم أشهر السنة. أما في الصيف، فكانت تتحول إلى حي أنيق أشبه بأحياء باريس الأرستقراطية.
حين تصل إلى غرانفيل، تلقاها كما وصفها ديور في مذكراته قبل خمسين عاماً، مكاناً لم يفقد جاذبيته على الإطلاق. في هذا المرفأ ترفع المراكب أشرعتها، والمدينة هادئة على صورة كريستيان ديور الذي استوحى منها، في طفولته، أسس أسلوبه في العمل.
على رأس إحدى تلال المدينة، مقابل الجزر النورماندية، ينتصب منزل عائلة ديور. كان ديور طفلاً عندما اشترى والداه هذا المنزل عام 1905. منزل على طريقة النورماندي الإنكليزي، يرتفع على تل ويواجه كل أشكال المتغيّرات المناخية. هو مرآة لما ستكون عليه حياة هذا الفنان فيما بعد، حياة لم تكن هادئة قط. بُني في القرن التاسع عشر، وأطلق عليه اسم « فيلا الرامب» تيمّناً بالبحارة الذين كانوا يمرون في بحر هذه المدينة. المنزل زهري، يدخله اللون الرمادي أحياناً. يقول ديور إن هذين اللونين سيبقيان ركيزة الألوان التي سيستخدمها في أعماله فيما بعد، وإنّ تصاميمه ستكون مماثلة للشكل الهندسي للمنزل.
إن كان المنزل هو الأساس في تحديد شخصية ديور وعمله في الأزياء، فللحديقة قصة أخرى.
الدخول في الحديقة يثير في الزائر شعوراً بالغبطة. هو شعور يصعب وصفه بكلام علمي. زهور من كل الألوان تنبت في كل مكان، ونباتات متنوعة بألوانها وروائحها. الحديقة قسمان، جزء مفتوح وجزء مقفل. في القسمين تعيش النباتات والزهور المتنوّعة التي تخلق مزيجاً من الألوان والعطور. كما أن الحديقة المقفلة لها سحر خاص. فهي محاطة بالزجاج من كل مكان، وعندما تضربها أشعة الشمس، تفوح منها الروائح من كل الجهات. وبهذا المزيج تولد عطور مختلفة.



من الحديقة المغلقة تلقاك في الخارج عرائش من الورود ترتفع حوالى خمسين متراً. التجوال تحتها يبعث في المتجوّل إحساساً خاصاً، كأنه غُلّف بثوب من الزهور، يحيط به من الرأس حتى القدمين.
عندما تنتهي من العرائش، تصل إلى البحر. ترى، كيف تعيش هذه الزهور والنباتات كلها رغم أنها قريبة من الماء المالحة. ومن المعروف أن هواء البحر المالح لا يترك المجال لزراعة أنواع كثيرة من النباتات والزهور؟ تجيب إحدى المرشدات العاملات في الفيلّا بأن والدة ديور كانت تعشق الزهور، وكان والده يملك شركة للأسمدة. حوّلت صاحبة الدار حديقتها إلى أرض خصبة جداً، وأهّلتها لتكون على الطابع الإنكليزي. وتذكّرنا مرشدتنا: «أدّت هذه الزهور دوراً أساسياً في تكوين ذوق مرهف لدى كريسيتان ديور منذ كان طفلاً، وكوّنت لديه حسّاً خاصاً بالروائح، ترجمه فيما بعد في العطور التي ما زالت تحمل اسمه حتى الآن».
في مقابلات عديدة، يقول ديور: «هنا، بعيداً عن المدينة وتجارتها، كنت أستمتع في كل لحظة برفقة النباتات والزهور. لقد أثّر ذلك أيضاً على قراءاتي. كنت أحبّ أن أتعلم أسماء كل الزهور وخصائصها، وكنت أكتشف الروائح ومزيجها بالجلوس ساعات طويلة محاطاً بها».
سرعان ما لاحظت الوالدة أن كريستيان ـــــ الأصغر بين أطفالها الخمسة ـــــ كان شغوفاً بهذه الحديقة. فخصّصت له زاوية كان يمضي فيها غالبية أوقاته. كان يزرع الزهور بنفسه ويكتشف روائحها.
في الجهة المقابلة لهذا المنزل، توجد فسيفساء تتخذ شكل نجمة. يقول ديور إن هذه النجمة كانت جالبة للحظ، وقد حفرها فيما بعد على كل قوارير العطور لتتحول إلى رمز دار أزياء ديور. داخل المنزل، يستقبلك بابان زجاجيان من الناحيتين المقابلتين للمدفأة، استوحى هذا المصمم منهما ديكوراً لعرض تصاميمه الأولى عام 1930 في جادة مونتاني في باريس.
بعد جولة بين أزياء ديور، عدنا مرة ثانية إلى العطور، فتوقفنا في محترف يعرّفنا إلى كل عطر من عطور ديور. ومن الحديقة قطفنا الزهور والنباتات، ورأيناها تتحول لتحمل أسماءً مختلفة وتعلّمنا مفردات العطور: هذا عطر مغلف فرح، وهذا غامض. سألت لماذا كان على المصمم أن يحوّل الزهور إلى عطور؟ ألم يكن كافياً أن يجلس في حديقته ليستمتع بالرؤية والشمّ واللمس؟ قالت المرشدة إن ديور كان يتخيّل العطر والزي كأنهما متصلان. ولم يكن يكتمل الثوب لديه إن لم يغلّفه بالعطر. ولا تكتمل جاذبية المرأة إلا بالعطر الذي يغلّفها من رأسها إلى رجلها.
كلام المرشدة أعادني إلى سحر نزهتي وأنا أجول تحت عرائش الورد، عدت إليها مرة ثانية قبل أن أنهي الزيارة للفيلّا، أحاول أن أشتمّ منها قبل أن أعود إلى القطار وإلى القوارير المرصوصة في المتاجر... عدت إلى العرائش أحثّ ذاكرتي على أن تحفظ ما أمكنها من روائح زهور فتنتني.


المنزل... متحفاً

من يملك هذا المنزل اليوم؟ تجيب المرشدة: «صار ملكاً لبلدية غرانفيل». ففي عام 1932، بعد وفاة السيدة مادلين والدة كريستيان ديور، أفلس الوالد بسبب الأزمة المالية العالمية آنذاك، وعرض المنزل للبيع. فاشترته منه البلدية وفتحته للجمهور عام 1938. منذ عام 1997، حوّلت البلدية المنزل إلى متحف دائم للمصمم كريستيان ديور، للتعرّف من خلاله إلى قصة هذا المصمم كاملة