أمل سعد*تُعدّ الصفقة من حيث المضمون والنوعية والكمية غير متوازنة لمصلحة حزب الله. فبالإضافة إلى أن نية إسرائيل إطلاق سراح المقاتلين اللبنانيين الأربعة الذين أسرتهم خلال حرب تموز، فاز حزب الله بقرار إطلاق المعتقل الأقدم في السجون الإسرائيلية، سمير القنطار.
القنطار الذي أطلق عليه الحزب لقب «عميد الأسرى العرب واللبنانيين»، اكتسب موقع «القضية الشهيرة» بين العديد من اللبنانيين، بعد أن أعلنته إسرائيل في عام 2004 رسمياً «ورقة مساومة» إنسانية مقابل حصولها على معلومات بشأن مكان وجود جثة الطيار الإسرائيلي المفقود رون أراد. وعلى الرغم من أن حزب الله سوف يقدم تقريراً مفصلاً عن مصير أراد، الذي تردد أنه سيُعلن عن وفاته، فإن الرواية التي سيعلنها الحزب ستقتصر على تحقيقاته الخاصة بشأن اختفائه من دون تحديد مكانه. فضلاً عن ذلك، وبحسب الإطار الذي وضعه الإعلام الإسرائيلي للصفقة، لن يكون إطلاق القنطار هو المقابل للتقرير الذي سيقدمه حزب الله عن مصير أراد، بل تقريراً إسرائيلياً عن مصير الدبلوماسيين الإيرانيين الأربعة الذين اختطفوا، ويُعتقد أنهم قتلوا خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982.
الأمر الآخر المذل للإسرائيليين هو الافتراض العام بأن الجنديين ليسا على قيد الحياة، وهو ما يعني أن إسرائيل تبادل لبنانياً حياً بجثتين لإسرائيليّيْن، أو ما هو أسوأ للكبرياء الوطني الإسرائيلي: تبادل الدولة العبرية «إرهابيين أحياء» مقابل «إسرائيليين أموات» على حدّ وصف أحد الإسرائيليين (نظراً لدور القنطار في قتل إسرائيلي وابنته البالغة من العمر 4 سنوات في عام 1979). وسواء كان جنودها أمواتاً أو أحياء، فإن إسرائيل بإطلاقها القنطار، تكون قد ابتعدت عن سياستها المعروفة برفض تحرير معتقلين «ملطخة أيديهم بدماء» إسرائيليين.
إن الانقلاب الإسرائيلي على هذه السياسة المعهودة قد شجع «حماس» التي دعا أخيراً أحد قيادييها، محمود الزهار، إلى استغلال قرار إسرائيل إطلاق أشخاص تتهمهم بأن أيديهم ملطخة بالدماء مثل سمير القنطار خلال مفاوضات الحركة مع إسرائيل بشأن إطلاق جلعاد شاليط. ويبدو أن قرار الشين بيت الشهر الماضي بالسماح بإطلاق مثل هؤلاء المعتقلين مقابل شاليط، شرط ألاّ يمثّلوا خطراً أمنياً، يكشف هشاشة إسرائيل في وجه حركات مثل «حماس» وحزب الله.
وفي إشارة أخرى على تراجع قدرة إسرائيل على المساومة في وجه هاتين الحركتين، أعطت الأخيرة موافقتها المتردّدة بتحرير عدد غير محدد من المعتقلين الفلسطينيين كجزء من صفقتها مع حزب الله. وهنا لا بد من التذكير بتعهد الوزير الإسرائيلي يعقوب إيدري من حزب كاديما بأنه «من المستحيل أن نطلق فلسطينيين» (دير شبيغل حزيران 2008)، مما يؤكد على صحة كلام نصر الله بأن هذا الجزء من المفاوضات كان «الأصعب». وبغض النظر عن العدد الحقيقي للمعتقلين الفلسطينيين الذين سيطلق سراحهم (ومن السهل القول هنا إنه لو تبين أن غولدفاسر وريغيف على قيد الحياة، فسيتمكن حزب الله من انتزاع ثمن أكبر من إسرائيل بتحرير عدد أكبر من السجناء)، فإن التنازل بحد ذاته مدمّر لإسرائيل.
هذه الخلاصة لا تهدف إلى تكريس صورة حزب الله في العالم العربي حامياً أساسياً للحقوق الفلسطينية، بل لها تأثير إضافي على «حماس» التي حددت أصلاً ثمن إطلاق شاليط بتحرير 450 إلى 1450 معتقلاً فلسطينياً، وخصوصاً أنه من المؤكد أن الجندي الإسرائيلي الأسير في غزة على قيد الحياة.
بالإضافة إلى مضمون الصفقة، فإن أبعادها الاستراتيجية تمثّل قضية أساسية لإسرائيل. فهي تمثّل أولاً اعترافاً واضحاً بمسؤولية إسرائيل عن حرب تموز التي ألحقت دماراً هائلاً بلبنان، وأدت إلى سقوط أكثر من 1200 لبناني غالبيتهم من المدنيين. وفي وقت كانت إسرائيل تستخدم أسر حزب الله لجنودها لتبرير حربها على لبنان، شدد السيد نصر الله دائماً على أن حزبه لا يطمح سوى إلى صفقة تبادل للأسرى مع إسرائيل التي ترفضها بشدة. واليوم بعد أن وافقت إسرائيل على هذه الصفقة، فإن خطف الجنديين يبدو ذريعة واضحة استخدمت لإطلاق حرب متعمّدة ضد حزب الله في محاولة لتفكيك بنيته التحتية العسكرية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ما كشفه أولمرت الشهر الماضي ونقلته وكالة الصحافة الفرنسية في 30 حزيران الماضي بأن «خطف حزب الله للجنديين الإسرائيليين كان يهدف إلى إجبار إسرائيل على إطلاق القنطار»، ليس سوى تأكيد على مسؤولية إسرائيل عن الحرب، وبالتالي إحراج الأنظمة العربية «المعتدلة»، أي السعودية ومصر والأردن، التي لامت حزب الله على «مغامراته غير المحسوبة» التي أدّت إلى العدوان الإسرائيلي على لبنان.
لا تمثّل صفقة التبادل إثباتاً على مسؤولية إسرائيل عن الحرب فحسب، بل على هزيمتها أيضاً. وعلاوة على إخفاقها في تحقيق هدفها الأكبر بتدمير قدرة حزب الله العسكرية أو إضعافها، فشلت إسرائيل في تحقيق مطلبها بإطلاق غير مشروط لأسيريها، على الرغم من القوة الساحقة لماكينتها العسكرية.
لقد صحّ توقع نصر الله يوم أسر الجنديين، في تهديده بأن الجنديين لن يعودا إلاّ بوسيلة واحدة: مفاوضات غير مباشرة وتبادل، حتى لو اجتمع «العالم كلّه» لإنقاذهما. في ذلك الوقت، قلل أولمرت من تحذير نصر الله وسخر من اقتراح التبادل، معلناً أن إسرائيل «لن تخدع ولن تفاوض على حياة جنديّيها مع منظمات إرهابية». ودعا في الوقت نفسه إلى إطلاق سراحهما فوراً ومن دون شروط. ولا ننسى أن أولمرت أطلق في الأسبوع نفسه وعداً مشابهاً من حيث القوة والحزم: «أنا لا أتفاوض مع حماس، أنا لم أتفاوض مع حماس ولن أتفاوض مع حماس» بشأن أية صفقة تبادل لإطلاق شاليط. والسيد نصر الله الذي يتباهى بفهمه للنفسية الإسرائيلية العسكرية والسياسية، استبق مثل هذا الكلام الأجوف لأولمرت في مؤتمره الصحافي في 12 تموز، عندما توقع أن يرفض الإسرائيليون في البداية وأن يوافقوا في ما بعد. وأضاف يومها أن هذا الأمر قد يحصل بعد أسبوع أو شهر أو عام، ولكن في النهاية سيوافق الإسرائيليون على التفاوض. فهذا التراجع الاستراتيجي وقدرة نصر الله على توقع خطوات الإسرائيليين لم يخففا من الخزي الذي انتاب المؤسسة السياسية الإسرائيلية.
العامل المربك الآخر بالنسبة لهذه المؤسسة كان أيضاً قدرة نصر الله الغريبة على الوفاء بكل وعد قطعه حتى الآن. ففي المؤتمر الصحافي في تموز، وفي فجر أكثر الحروب التي ضربت لبنان تدميراً، تعهد نصر الله للمعتقلين اللبنانيين بأن موعد حريتهم بات قريباً، مؤكداً من جديد مصداقية كلامه، وذلك في تعارض فاضح مع خصومه الإسرائيليين من دون أن نذكر نظراءهم العرب. وبذلك فإن الانتصار الأهم في الصفقة هو تفوّق خطاب نصر الله وبالتالي تفوّق إرادته.
لا يمكن لإسرائيل أن تجد عزاء في كونها تنصاع لإرادة المجتمع الدولي أو لما ينص عليه القانون الدولي. فصحيح أن صفقة التبادل تجري تحت مظلة الأمم المتحدة، إلا أنها تذكّر بأن قرار مجلس الأمن الرقم 1701 لا يدعو إلى إجراء مثل هذه الصفقة، بل يتبنّى المصطلحات الإسرائيلية، إذ ينص على «إطلاق غير مشروط للجنود الإسرائيليين المحتجزين». وبذلك يبدو حزب الله قد نجح في تحدّي ليس إسرائيل فحسب، بل إرادة المجتمع الدولي أيضاً.
(ترجمة: آمنة القرى)
* باحثة لبنانيّة