تابع الجيش الأميركي معارك تموز 2006 عن كثب. وفيما سجلت إسرائيل جدلاً في تقييم الحرب، فإنّ المؤسسة العسكرية الأميركية لم تشهد سجالاً ملحوظاً عند استخلاص العبر. «أُلقي القبض علينا غير مستعدّين»؛ عنوان أحد أهمّ الدراسات الأميركية، الصادرة عن معهد الدراسات العسكرية في حصن «ليفنوورث» في ولاية كنساس، عن الحرب البرية في تموز. وفقاً لنظريته في القتال، لم يكن لدى رئيس الأركان في الجيش الإسرائيلي اللواء دان حالوتس أي نية لتنفيذ خطة اجتياح بري. ولكن بعد إلحاح من قادة الجيش توصّل حالوتس وجنرالاته إلى اتفاق للقيام بحملات برية محدودة.
لم يكن هدف هذه الحملات تدمير حزب الله أو صواريخه، بل عملية خداع لمحاولة استدراج نصر في الوعي الإسرائيلي وتجنّب الهزيمة في الإدراك لدى الجنود الإسرائيليين. لقد تبين لاحقاً أن هذه الخطوة كانت بلا طائل. لم تكن الطلعات الجوية لتدمّر صواريخ حزب الله كما هي الحال بالنسبة للحملة البرية.
وبحسب قائد إسرائيلي رفيع المستوى، «لم يكن هناك معنى على الإطلاق لهذه الخطوة. إما أن تقوم باحتلال كامل لمنطقة إطلاق الصواريخ أو لا تفعل».
في 17 تمّوز، بدأت أولى إرهاصات الهجوم البري الإسرائيلي الواسع قرب مارون الراس. إحدى وحدات النخبة المشاركة في المعركة كانت وحدة «ماجلان» الأكثر تجانساً بين القوات الخاصة الإسرائيلية. فوجئت هذه القوة بغزارة النيران وصلابة مقاتلي حزب الله.
صباح اليوم التالي، كانت القوة محاصَرة. في قيادة المنطقة الشمالية، كان أودي آدم غير قادر على تصديق أنّ إحدى أفضل الوحدات في قواته وقعت في الفخ.
بدوره تساءل حالوتس «ماذا يجري مع ماجلان؟». أجاب آدامز «إنّهم محاصَرون»، قبل أن يضيف «يجب أن أرسل المزيد من القوات».
انطلاقاً من الخنادق والأنفاق، كان مقاتلو حزب الله في مارون الراس ومحيطها يقاتلون بشراسة. ومع اشتداد المعركة، أُجبر الجيش الإسرائيلي على زج المزيد من القوات. سرعان ما دخلت الدبابات المرافقة لثلاثة ألوية، فضلاً عن وحدة «إيغوز» التابعة للواء «غولاني» وكتيبة هندسة ولواء مظليّين.
في 19 تموز، قتل صاروخ مضادّ للدروع أطلقه حزب الله خمسة جنود من «إيغوز» بينما كانوا يختبئون في منزل. في الوقت نفسه، أُصيبت دبّابات عدّة بصواريخ من طراز «ساغر» المضاد للدروع، ما أدّى إلى إصابة العديد من الجنود. «لم يقاتل حزب الله كما كنا نظن أنه سيفعل»، قال أحد الجنود.
لقد أربكت تكتيكات حزب الله الجيش الإسرائيلي. وفيما يلفّ الغموض الكثير من المشكلات في أداء الجيش الإسرائيلي في مارون الراس، فقد أطلق الجنود والضباط انتقادات بشأن التكتيك والإصابات.
منذ اللحظات الأولى للمعركة، أشارت التقارير الميدانية إلى إصابات كثيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي، ما سبّب قلقاً لدى الضباط. كما أظهرت التقارير نقصاً في الكفاءات والمهارات الأساسية. ذلك أنّ سنوات القتال ضد الفلسطينيين لم تطوّر كفاءة القوات الإسرائيلية.
استدعى أولمرت وحالوتس الاحتياط، بعد تفاجئهم بعناد حزب الله في مارون الراس وعدم فعالية الحملة الجوية، في 21 تموز. تمت عملية استدعاء الاحتياط فوضوياً، فيما كان الدعم اللوجستي متأخّراً نحو 48 ساعة عمل عن انتشار الاحتياط.
وبعكس مما كان يظنه الكثيرون، لم يكن الهدف من استدعاء الاحتياط دعم القوات النظامية في اجتياح بري لجنوب لبنان. حتى تلك اللحظة، كانت خطة حالوتس لا تزال هي نفسها: لم تكن هناك نية أصلاً لإرجاع حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني. وقف قادة البر مذهولين يتساءلون عن الأهداف الحقيقية للحرب.
وفي اليوم الذي استدعي فيه الاحتياط، اضطرّت إسرائيل إلى طلب ذخائر إضافية من الصواريخ الموجهة من الولايات المتحدة. لقد استخدمت إسرائيل، في غضون 10 أيام، معظم مخزونها من الذخائر، ومع ذلك لم يغير هذا الأمر في «المنطق العسكري» لحزب الله أو في قدراته القتالية.
في هذه الأثناء، كان الموساد يسرّب معلومات إلى الصحافة في 28 تموز تفيد بأن «حزب الله لم يعانِ من أية أضرار ملحوظة في قدراته العسكرية، وأن المنظمة قادرة على خوض حرب أشهراً طويلة».
أما حالوتس فكان «خائباً» بسبب فشل الحملة الجوية ومقاومة حزب الله وعجز جهوده عن تأمين «نصر في الوعي الإسرائيلي».
بحلول 14 تموز، كان عناصر من «غولاني» والكتيبة السابعة المدرعة يتخذون مواقع حول بنت جبيل. وفي 25 تموز، بدأت كتيبة المظليين الخامسة والثلاثين بالتحرك شمال غرب البلدة، محاولة اتخاذ مواقع رادعة.
في اليوم نفسه، أعلن قائد الفرقة 91 غال هيرش أن قواته سيطرت على بنت جبيل. ولكن هذا الإعلان لم يكن صحيحاً. ومع استمرار حزب الله في قصف إسرائيل بالصواريخ، أعطى حالوتس أوامره لأودي آدم لمهاجمة البلدة. أراد حالوتس التأثير على إدراك حزب الله من خلال استهداف رمزية البلدة، حيث ألقى السيد حسن نصر الله خطابه الشهير عام 2000.
ولكن في النهاية، ألقت معركة بنت جبيل بثقلها على الوعي لدى الرأي العام الإسرائيلي لناحية التشكيك بحرفية الجيش الإسرائيلي. أعطى حالوتس أوامره لـ«غزو بنت جبيل» بكتيبة واحدة فقط.
في 26 تمّوز، وبعد قصف مدفعي عنيف للبلدة، تحركت الكتيبة 51 في لواء «غولاني» باتجاه البلدة من الشرق. في هذه الأثناء، كان حزب الله يزج بمزيد من المقاتلين في المنطقة. لم تكن هذه هي المرة الأخيرة التي استطاعت فيها استخبارات حزب الله تقدير خطوات الجيش الإسرائيلي.
عند الساعة الخامسة والنصف من صباح ذلك اليوم، تقدمت المجموعة الأولى والثالثة من الكتيبة الإسرائيلية باتجاه ما بدا أنه مخزن لأسلحة حزب الله. أحد الجنود الإسرائيليين وصف ما جرى بعدها بأنه «كمين في الجحيم» إثر الاشتباكات التي دارت. في النتيجة، أُصيب 30 عنصراً من المجموعة الثالثة، أي ما يوازي ثلث قوة المجموعة، من بينهم نائب قائد الكتيبة روي كلاين. كما أصيب 5 جنود من المجموعة الأولى.
استمرت المجموعتان الإسرائيليتان في مقاومة نيران حزب الله الكثيفة. أحد الشهود العيان وصف الفوضى في مركز قيادة الكتيبة، مشيراً إلى أن كبار الضباط كانوا يركضون في أرجاء المركز، حاملين خرائط وأجهزتهم الخلوية، في محاولة لتنسيق جهود سحب الجرحى والقتلى.
وفي لحظة ما، أبلغ غال هيرش، حالوتس بما يلي: «لا يمكننا إنزال المروحيات لسحب الجنود، المعركة عنيفة». حتى اليوم الأخير من الحرب لم يستطع الجيش الإسرائيلي تأمين بنت جبيل بالكامل.
ولكن مع ذلك، ظل حالوتس، خلال الحرب، مقتنعاً بصحة نظريته. وفي الأيام الأخيرة من شهر تموز، اختار تنفيذ استراتيجية «الدخول والانسحاب». شكّك جنرالات هيئة الأركان بصواب هذه الخطة، حتى إنّ اللواء عيدو ناخوشتان (قائد سلاح الجو حالياً) نصح حالوتس قائلاً إنه من دون حملة برية لن يكون الجيش الإسرائيلي قادراً على وقف صواريخ الكاتيوشا، وتابع ناخوشتان «يجب أن تخبر الحكومة بذلك، وإذا لم يوافقوا فعليهم إيقاف الحرب حالاً».
بالرغم من كل شيء، كان الجيش الإسرائيلي، بحلول الأول من آب، يقود عمليات صغيرة في جنوب لبنان. في ذلك اليوم، أعلن الجيش أن فرقة الهندسة والمدرعات اتخذت مواقع لها في محيط قرى ميس الجبل ومحيبيب وبليدا. كما عزّز الجيش قواته في الطيبة والعديسة ورب ثلاثين وعيتا الشعب ومارون الراس وبنت جبيل.
اختصر المسؤول السابق للقوات الدولية تيمور غوكسيل المشهد بالقول «في 1982 استطاع الجيش الإسرائيلي الوصول إلى بيروت، اليوم هو لا يستطيع التقدم بضعة كيلومترات».
بدت هشاشة القوات البرية الإسرائيلية جلية مع استدعاء الاحتياط إلى الحدود. أفاد مصدر موثوق بما يأتي: «علم قادة حزب الله الميدانيين أن القوات الإسرائيلية ضعيفة التجهيز والتنظيم، حتى في صفوف ألوية النخبة. كان وضع الاحتياط أسوأ، وتردد قادة إسرائيل كثيراً في زجهم في المعركة».
أحد جنود الاحتياط في لواء مدرعات أبلغ مراسل أجنبي أنه «في السنوات الست الماضية، خضعت لتدريب لمدة أسبوع واحد فقط. والنتيجة كانت أننا غير جاهزين لمواجهة مقاتلين حقيقيين كمقاتلي حزب الله».
أحد فصائل المظليين، الذي يضم 30 جندياً إسرائيلياً، كان يملك قبضتين اثنتين فقط
من صواريخ «لاو» المضادة للدروع. كما أنّ معظم جنود الاحتياط كانوا يعانون من نقص في البزات المقاومة للرصاص وحاجيات الطبابة والذخيرة ومعدات الرؤية الليلية، فضلاً عن مياه الشرب والغذاء. حتى إنّ جنود لواء «الكساندروني»، وهو أحد ألوية النخبة، عانوا بشدة من الجفاف في أجسامهم بسبب النقص في الغذاء والمياه، ما أدى إلى عرقلة مهمتهم.
بالإضافة إلى ذلك، عانى الاحتياط من قصور في التدريب. العميد إيريز زاكرمان، الذي قاد كتيبة مدرعات من الاحتياط، أمضى حياته المهنية في البحرية، ولم يتلقَّ أبداً تدريبات على استخدام الدبابات أو القوات المؤلّلة. أما العميد ايال ايزنبرغ فقد تعرض لـ«توبيخ شديد» بسبب أدائه الفاقد للكفاءة التكتيكية.
في النتيجة، وبعد ثلاثة أسابيع من الحرب، لم تقدر القوات البرية على التقدم أكثر من أربعة أميال، وبقيت المنطقة الحدودية غير آمنة، كما هي حال قريتي مارون الراس وبنت جبيل.
على الرغم من ذلك، تألفت مجمل قوة حزب الله جنوب الليطاني من 3 آلاف مقاتل فقط. حتى إنّ الحزب لم يضطر إلى استدعاء احتياطه طوال الحرب.
بحلول 8 آب 2006، كان قد قُتل 61 جندياً إسرائيلياً، فيما زعم الجيش الإسرائيلي أن 450 عنصراً من حزب الله قد قُتلوا. إن هذا الرقم الأخير فيه الكثير من المبالغة، ذلك أن حزب الله فقد ما يقارب 184 مقاتلاً في الحرب كلّها.
في 11 آب، أصدر مجلس الأمن القرار 1701 بهدف تطبيق وقف إطلاق النار «بأسرع وقت ممكن». كانت الأيام الأخيرة من الحرب أشدها غرابة، إذ أعطى أولمرت ووزير دفاعه عامير بيريتس الأوامر للقوات بالتقدم شمال الليطاني. وفيما لا يزال سبب هذه المناورة مشوشاً، فهي بالتأكيد لم تكن تهدف إلى «تدمير» حزب الله. بدا أن الجيش لا يزال يتبع استراتيجية حالوتس في القتال.
بحلول 11 آب 2006، بدأت كتيبة من احتياط القوات المنقولة جواً، بقيادة العميد ايال ايزنبرغ، بالتحرك شمالاً باتجاه قريتي دبل وقانا. فجأة، أصاب صاروخان مضادان للدروع منزلاً كان يعجّ بأكثر من 50 مظلياً إسرائيلياً في دبل، بناءً على أوامر ايزنبرغ نفسه. قتل الهجوم 9 جنود وأدى إلى إصابة 31.
ومع دخول قرار وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، تحركت كتيبة العميد غال هيرش بموازاة الخط الساحلي غرباً، انطلاقاً من شمال بنت جبيل، حيث كان مقاتلو حزب الله لا يزالون صامدين. أسفرت هذه الخطوة عن حالة من الفوضى شبيهة بما حصل في مارون الراس وبنت جبيل مطلع الحرب.
في هذا السياق، أظهر تحقيق حكومي إسرائيلي خللاً فادحاً في المهنية في أداء الكتائب. استنتج التحقيق أن قادة الكتائب لم يكونوا مع قواتهم خلال المعارك، وفشلوا في فهم أوامر القيادة العليا. كما أشار التحقيق إلى أن النقص في التدريب أدى إلى الفشل في كثير من المواقع.
وبحسب مصدر إسرائيلي، فمن بين 11 قائد كتيبة، نجح واحد فقط في اجتياز الحدود مع حلول نهاية الحرب.
وتلحظ الدراسة كيف أنّ عيتا مثّلت سرّ التردّد البرّي بالنسبة للإسرائيليين. فقد انطلقت عملية الأسر التي نفذها حزب الله في 12 تموز 2006 من بلدة عيتا الشعب. وعند بدء العملية، قدّرت الاستخبارات الإسرائيلية أن 30 مجموعة لا تضمّ أكثر من 200 مقاتل كانت تعمل في القرية، وهي مجهّزة بصواريخ مضادّة للدروع وقاذفات «آر بي جي» ووحدات استطلاع. كما كان في القرية 25 خبيراً في الصواريخ المضادّة للدروع، بينما انتمى بقية المقاتلين إلى القوّات الخاصة. وخلال الـ96 ساعة الأولى، هاجم الجيش الإسرائيلي الطرق وأهدافاً في أطراف البلدة. طغى القصف الجوي والمدفعي طوال شهر تموز. وفي صباح 1 آب 2006، قُتل ضابط إسرائيلي وجنديان من الكتيبة 101 التابعة لسلاح المظليين وأصيب 25 جندياً آخر بجروح، معظمهم بصواريخ مضادة للدروع.
في 13 آب، قتل 4 جنود إسرائيليّين وأصيب 14 بجروح في هجوم صاروخي آخر بواسطة صاروخ مضاد للدروع استهدف وحدة مشاة في تلة «أبو طويل» شمالي عيتا الشعب. كانت مواجهات عيتا، بحسب دراسة صادرة عن جامعة سلاح الجو الأميركي، من أبرز العوامل المؤثّرة في القرار الإسرائيلي المتردّد بعدم زجّ سلاح البرّ في الحرب.
* كاتب لبناني
حرب تمّوز: «هنا كمائن الجحيم»
إعداد: علي شهاب *