strong>نسيم الخوري *من طاولة الحوار في البرلمان، بجلساته التسع، إلى جلسات التشاور التي لم تنعقد، فجلسات الحوار السليمانية في بعبدا التي عكّرها تفجير بيصور، تتكدّس الملفات الكبرى التي تعوّد العديد من السياسيين في لبنان تناولها بما يوحي عدم تناولها أبداً.
وإذا ما قششنا الكثير من الخطب والتصريحات التي أعقبت زيارة الرئيس ميشال سليمان إلى دمشق للانطلاق منها إلى دول أخرى، تبرز إلى ذهننا مسائل مثل السلاح الفلسطيني في لبنان وفلسطين والتوطين. كما تبرز مسائل ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا والتمثيل الدبلوماسي بينهما ومزارع شبعا وكفركلا وشمالي الغجر. وقبلها كلها المقاومة وما يرتبط بالكلام الكثير عن استراتيجية الدفاع الوطني وسلاح حزب الله، أو نقطة الارتكاز المحورية لما يدور.
ونرى ضرورة في الانكباب على أشرس ملف في لبنان قبل كل الملفات الأخرى، ونعني به تمادي بعض السياسيين في بذر الطائفية والمذهبية إلى درجة أنّ الحصاد لن يكون سوى المزيد من الكوارث والانقسامات. ووفقاً لهذه القناعة، نرى صعوبةً هائلة في لملمة تلك البذور من النفوس والعقول والأجساد بعدما نمت وكبرت، ولو طقّت الحناجر من الصراخ بما هو عكس ذلك. ونطرح هنا 3 قصص واقعية من لبنان، كي يقرأها المتحاورون قبل تحلّقهم حول الطاولة غير المستديرة في قصر بعبدا:
الأولى: يقطن زميلنا الأستاذ الجامعي المسيحي في منزل من ثلاث غرف وصالون، وله زوجة وولدان يدرسان في جامعة واحدة. لم يهدأ البيت ولم يعرف هو وزوجته طعم النوم الهادئ منذ أن انشقّ هذا البيت نصفين: نصفاً للعونيين ممثلاً بغرفة يقيم فيها ولده البكر وقد طلست جدرانها بصور للعماد عون، والنصف الآخر للقواتيين ممثلاً بغرفة ثانية يقيم فيها ولده الثاني وقد طلس سقفها وجدرانها بصور للدكتور سمير جعجع وزوجته ستريدا.
مناشير وكتب وأدبيات وصحف ومقالات وأصدقاء عونيون في الغرفة الأولى، ومثلها مناشير وبيانات وصحف ومقالات قواتية ورفاق قواتيون في الغرفة الثانية. وقد اضطر الزميل الكريم إلى شراء جهاز تلفزيون لكلّ منهما، حيث لكلّ واحد قنواته وبرامجه السياسية والإعلامية المفضّلة، كما اضطر إلى اقتناء جهاز كومبيوتر حيث لكلّ منهما اتصالاته وأبوابه وصوره ورسائله الإلكترونية.
يتصاعد النقاش والاحتكاك والاحتدام بين الولدين إلى درجة رسوبهما دورتين في الامتحانات الجامعية، وباتت الحياة لا تطاق في المنزل كما يقول الأب الذي حاول أن يشرح لهما حروب التحرير والإلغاء والأثمان الهائلة التي دفعها المسيحيون واللبنانيون عامةً من جرّائها.
وقد خرج هذا الصراع الخفي بين الشقيقين إلى مداخل البيت، حيث باتا يتنازعان على تعليق الصور في الصالون الذي رفع فيه الوالد صورة واحدة تجمع الحكيم والجنرال حول طاولة في مطعم من مطاعم «الداون تاون» بعد انفضاض جلسات التشاور الأخيرة على مزيد من الانقسام والتشرذم في المجتمع اللبناني.
الثانية: يقطن زميل شيعي في طلعة القنطاري مع زوجته الأستاذة الجامعية السنيّة التي وُلدت ونمت في الطريق الجديدة معقل أهل السنّة. وقد رزقا ببنت وحيدة تدرس في عائشة بكّار. بعد حرب تموز، وانقسام اللبنانيين حول كلّ شيء، تسرّب الانقسام إلى المنزل الصغير؛ فالوالد من بنت جبيل فقد ثلاثة من عائلته في القصف الإسرائيلي، وأصيب أخوه إصابة أقعدته الفراش، ما يكلّف الزميل أموالاً طائلة لطبابته وإعالته، وهو لا يملك الكفاية منها، والدولة غائبة، والزوجة باتت تقاسمه راتبها وتشحّ على نفسها.
وجاءت ردود فعل الزوجة لطيفة في البداية، لكن صوتها راح يعلو، وباتت مسائل مثل النصر أو الصمود والوصاية والوصاية المضادة وسلاح حزب الله والثلث المعطّل وجلسات التشاور والحوار وحسن نصر الله وسعد الحريري وحكومة الوحدة الوطنية والبيان الوزاري وصلاحيات أبو جمرا وجلسات الحوار ومشتقاتها التي تشغل الشاشات في الليل والنهار، موضوع تنافر وخلاف وشحن وفشة خلق بين الزوجين اللذين غرقا، فعليّاً، في مشاكل يصعب ترميمها، كان آخرها إصابة الوالد بالذبحة القلبية، ممّا هزّ البيت من جذوره، وفاقم المشاكل إلى درجة أن البنت تركت المدرسة وباتت تلازم أمها لمساعدتها في خدمة عشرة أشخاص قائمين نائمين في غرفتين ويفترشون المدخل والصالون.
أطلقت زوجة شقيق زميلنا الجامعي الدكتورة «زلغوطة» عندما سمعت، أخيراً، أن الشيخ سعد والسيد حسن قد يلتقيان قريباً!
الثالث: وضعت زوجة الدكتور هشام دياب الابن البكر للصديق أسعد دياب وزير المالية السابق في لبنان الشيعي توأماً من الإناث، والكنّة على المذهب السنّي، وقد زاره للتهنئة زميل بادره بالقول: صار لديك حفيدتان، واحدة سنيّة وثانية شيعية. فعلّق زميل آخر: لكن كلتيهما مع المقاومة. واعترض آخر معلّقاً: لا. واحدة 14 آذار والثانية 8 آذار، وانتهى المزاح بتعليق أخير: قد تتزوّج الشيعية سنيّاً عندما تبلغ، وقد تتزوّج الشيعية سنيّاً في ما بعد، والعلم عند الله.
يختزن هذا الحوار الضاحك الودّي، على ظرافته، مع القصّتين، كمّاً هائلاً من المرارة التي تعصف باللسان اللبناني، ولربّما بالنفسيات والعقليات، بتشظيّات مستجدّة لم نكن نألفها سابقاً، على الرغم من الطائفية التي كانت تنخر في البنية اللبنانية منذ الأساس. وهذه القصص من بين ألوف وملايين الأمثلة والأحاديث اليومية التي وقع اللبنانيون في أسرها، مع أنّ التداخل والتزاوج والتناسل يجعل اللبنانيين أشبه بقطعة ليف يتداخل نسيجها، ويستحيل فصل خيطانها، بعدما قشّرت الحرب اخضرار الليف وكأنه ما عاد يصلح لحفّ النفوس والأجساد وفصلها، بالإضافة إلى اختلاط المسلمين في الأرحام والأسماء والأنساب مثل اختلاط السكر بالماء. وإذا كان التشظّي الطائفي والمذهبي المتقدّم هو الأكثر مرارةً، فإنّ اللبنانيين تعوّدوا الانقسام في كلّ شيء، في بيوتهم ومع أولادهم وزوجاتهم وبين جمهوريي أميركا وديموقراطييها، وبين سوريا وإسرائيل، وبين ايران وأميركا، حتّى حدود العجز، من تركيب السن على السن. ألم يتعانق الشابان النادلان في مطعم الدار بعدما استوى الجنرال والحكيم أمامهما حول طاولة واحدة لتناول طعام الغداء، في جلسات الحوار في البرلمان؟
بلى، نظر أحدهما إلى الآخر بعد جفاء طويل، وتعانقا وانهمرت دموعهما.
ما الحل؟ لملمة القصص الكثيرة من هذا النوع، ووضعها على طاولة الحوار المنتظرة في بعبدا ليقرأها المتحاورون مثل حبوب مهدّئة تخفّف ارتفاع الأدرينالين في أبدانهم. والحوار، كي يكون فلسفياً، يفترض تنازلاً من الأطراف كلّها، وألغازاً في تفسير التنازلات لا تضعف المتنازلين، ولا تفقدهم صدقيتهم أمام جماهيرهم.
* أستاذ جامعي