هيفاء زنكنة *وراء مشاة قوات الاحتلال الأميركي ومدرعاته، وتحت حماية قواته الجوية، في الخط الثاني من الاحتلال، يعمل متعاقدو الشركات الأميركية والبريطانية في حقل الإعلام. وبإشراف فرق التوجيه الإعلامي النفسي الاستراتيجي، يجري اختيار الأولويات والتنسيق مع عدد من أجهزة الإعلام العراقية والعربية. تراوح مهمّاتهم في العراق المحتل ما بين تزويق صورة المحتل عن طريق مباشر، كتعداد فوائد وجوده الإيجابية وتقريبه من «قلوب الناس وعقولهم»، أو بطريقة غير مباشرة بواسطة خلق عدو بديل، وفي أكثر الحالات، جعل وجوده أمراً مقبولاً ومألوفاً. ويجري تنفيذ «عملية المعلومات» الاستراتيجية هذه، التي يتشابك فيها العسكري بالإعلامي، في بعض أوجهها، عبر الإعلانات المطبوعة والمرئية والمسموعة. ويستند عمل الشركات المتخصصة إلى فكرة مفادها أن الحقائق والمعلومات والمواقف، مثل أية بضاعة أخرى، يجري صنعها حسب الحاجة، ويجب تسويقها بطريقة جيدة ومنظّمة وتمس حاجات الناس الحقيقية، لإغواء الناس وجذبهم لشرائها أو لتقبّلها.
وقد تطورت الفكرة من طريقة إلى أُخرى منذ مرحلة الإعداد لغزو العراق حتى اليوم، وتعدد المسهمون في إدارتها وتصميمها ونشرها، حيث قامت إدارة الغزو العسكري بتوزيع الغنائم بطريقة العقود، ومن بينها شركات الإعلانات الدعائية البريطانية والأميركية لبيع الديموقراطية إلى الشعب العراقي المحتل. وهي المرة الأولى التي تُستخدَم فيها الإعلانات لنشر «الديموقراطية» حسب جيمس لي راي، بروفسور العلوم السياسية في جامعة فاندربلت.
وكان توقيع البنتاغون، أخيراً، عقداً بقيمة 300 مليون دولار مع 4 شركات لتنفيذ حملة إعلانية مكثفة، متزامناً مع حاجة الولايات المتحدة الماسة إلى توقيع الاتفاقية العسكرية الطويلة المدى، التي وصفتها كوندوليزا رايس بأنها «مسألة حاسمة»، وخاصة أنها ترتبط بحظوظ المرشح الجمهوري للرئاسة في الأسابيع القليلة المقبلة، وحسابات سياسية أميركية داخلية أخرى.
وتركّز الحملة الإعلانية الدعائية الحالية، بطريقة خاصة، على نجاح القوات الأميركية في استتاب الأمن بعدما طردت وتخلصت «من قواعد الإرهاب السنية والشيعية»، وإن كانت تحذر في الوقت نفسه من أن النجاح «هش» واحتمال عودة «الإرهابيين» كبير، حسب تعبير ديفيد بيترايوس. لهذا، تدعو الإعلانات إلى ضرورة توقيع الاتفاقية، لكي تستمر القوات الأميركية في الدفاع عن العراق ضد «العدو». والعدو في هذه الحالة، حسب الإعلانات الدعائية التي بدأت الفضائيات العراقية والعربية ببثها، والمقالات المنشورة والتصريحات العسكرية والسياسية، هو إيران. وتُذكر إيران إما بطريقة غير مباشرة كما في الإعلانات التلفزيونية القائلة «الإرهابيون القادمون من الحدود الشرقية»، أو صراحة وبالاسم كما في حملة الإعلانات المنشورة في عدد من الصحف العراقية والخليجية التي تظهر خارطة العراق وعليها تعليق مثل «الاتفاقية الأمنية كفيلة بطرد قوى الإرهاب الايراني وبسط سيادة العراق على كامل أرضه»، وهي إعلانات تهدف إلى جعل الناس يعتقدون أن العدو الأول هو إيران لا أميركا، وأن توقيع اتفاقية العبودية مع أميركا هو الحل الوحيد للخلاص والدفاع ضد إيران.
وتحويل الأنظار عن أميركا كعدو رئيسي هو أحد أهداف استراتيجية عملية المعلومات التي أشرف عليها، أثناء تأليف مجلس الحكم في ظل بول بريمر، العقيد في القوات الجوية الأميركية باتريك رايدر، القائل إن الإعلانات الدعائية «هي خطتنا بالتأكيد. إذ تهدف الإعلانات إلى تشجيع العراقيين على التفكير في ما هو أبعد من الاحتلال».
والشركات الأربع التي وقّعت العقد الجديد هي بيل بوتنجر، ومجموعة لنكولن، وأس واي كولمان، وسوسي. وكانت شركة بيل بوتنجر ومجموعة لنكولن قد وقعتا عقوداً سابقة مع واشنطن للعمل على إنتاج الإعلانات الدعائية المتعلقة بتسويق الديموقراطية وبيعها في عامي 2004 و2006. ويرأس شركة بيل بوتنجر البريطانية لورد بيل المعروف بأنه من أسهم في الترويج لسياسة مارغريت تاتشر، التي كانت مع رونالد ريغان من أهم شخصيات اليمين المتطرف، الذي ساد السياسة العالمية منذ الثمانينات. ووقع لورد بيل عقده الأول مع إدارة الاحتلال في عام 2004 لتصميم إعلانات تلفزيونية بُثّت في داخل العراق وخارجه في الفترة السابقة «للانتخابات الديموقراطية» بقيمة 15 مليون دولار، بينما حصلت مجموعة لنكولن وساياك على عقد قيمته مليار دولار وربع مليار تقريباً، لفترة خمس سنوات للأغراض الإعلامية.
وادّعت شركة بيل أنها عملت مع عراقيين في داخل العراق لإعداد الإعلانات وإخراجها بطريقة تحترم الثقافة العراقية من خلال شركة تدعى بالوش ورو. وتبين أن الشركة التي تحترم «ثقافة العراقيين» أسسها سمساران لبيع البضائع على اختلاف أنواعها، بدءاً من معدات المطبخ ووجبات الطعام السريع إلى أحذية الجنود ومكائن الاستنساخ، إلى «أي شيء تريد شراءه»، حسب تعبير برينت بالوش نفسه. فلا عجب إن تجاوزت ثروتهما الملايين خلال شهور الاحتلال الأولى فقط.
والمعروف أن مجموعة لنكولن المتعاقدة مع البنتاغون هي التي أسست شبكة الإعلام العراقية الوطنية (لاحظ صفة الوطنية)، ونشرت المقالات بأقلام صحافيين مأجورين في صحف عراقية من بينها صحيفة «المدى» لصاحبها الشيوعي السابق والليبرالي الجديد رئيس مستشاري «الرئيس العراقي» جلال الطالباني، فخري كريم.
وراوحت التسعيرة ما بين 30 – 100 دولار لنشر المقالة الواحدة المكرسة للإيحاء بتحسن الأوضاع في العراق المحتل، ومسؤولية «الإرهاب» لا الاحتلال عن الخراب الشامل الذي عم البلاد والعباد. وكانت شركة أس واي كولمان واحدة من ثلاث شركات وقّعت عقدها الأول مع البنتاغون في 2005 لتحسين صورة أميركا عالمياً من خلال حملة «عمليات سايكولوجية» جديدة.
وبلغت قيمة العقد 100 مليون دولار لكل شركة. وتتخصص شركة كولمان بإعداد برامج إخبارية جاهزة للبث في الإذاعة والتلفزيون العراقي وعدد من القنوات والمحطات العربية، تهدف لزيادة الدعم الشعبي للأهداف الأميركية و«انجازات الحكومة العراقية».
كما يستغل الإعلام الدعائي اختيار توقيت بث الأخبار، كما حدث عندما قام عدد من القنوات الفضائية بعرض شريط فيديو قتل المتعاقد الأميركي نك بيرغ واتهام «الإرهابيين» بتنفيذ العملية مباشرة بعد نشر صور تعذيب المعتقلين في ابو غريب.
ويتخذ الإعلام الدعائي للاحتلال أشكالاً مختلفة تراوح من الإعلان التلفزيوني (في قنوات العراقية والشرقية والعربية) إلى الصحافي (في صحف العراق والخليج)، ومن المقالة والتحليل (صحيفة الصباح والمدى) الى المقابلات التلفزيونية وبرامج الحوار (في قناة الحرة وراديو سوا)، والبرامج الترفيهية والتسلية والمسابقات الشبابية.
وقد ذكرت «واشنطن بوست» أن بيترايوس أصر على أن يقدم مترجمه سعدي عثمان، وهو فلسطيني أميركي كان يعمل سائق تاكسي في نيويورك قبل الحرب، برنامجاً شعبياً في راديو الموصل، وعلى أن يجري تقديم برنامج باسم «ابحث عن الموهوبين في الموصل».
لقد بلغ التداخل ما بين العسكري والإعلامي والثقافي في العراق مستوى لم يُعرف من قبل، وهو تشابك سيستمر على مدى عقود مقبلة، وخاصة إذا ما جرى توقيع الاتفاقية الأمنية والاقتصادية والثقافية. وتشير تطورات توسع الإمبريالية ــ وإن توقفت عسكرياً في العراق ــ إلى أنها وبحكم الميزانية الهائلة المكرّسة للبنتاغون ولعمليات المعلومات واستراتيجية العمليات النفسية والإعلامية، بالتزامن مع ما يسمّى بناء المجتمع المدني، قد تسللت إلى كل ما يمس بنية المجتمع. وخطرها في المجالين الإعلامي والثقافي يستحق البحث والمتابعة وإيجاد سبل التوعية وتأسيس البديل، إذا ما أردنا الاستقلال للعراق المحتل والتطور العضوي وفق حاجات وطموحات المجتمع في الدول العربية وبناء علاقات متكافئة مع دول الجوار والعالم.
* كاتبة عراقية