إسكندر منصور *وتتويجاً لاتفاق الدوحة والبدء في تنفيذه، شهدت العاصمة السوريّة زيارات رؤساء جمهوريّة عديدين، بدءاً بزيارة الرئيس اللبناني العماد ميشال سليمان والاتفاق على إقامة علاقات دبلوماسيّة بين لبنان وسوريا، إلى زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي التي مهّدت الطريق لإعادة إحياء دور ما لسوريا لم تتضح معالمه بعد في مواجهة التيارات المتطرفة التي كانت دمشق وطرابلس مسرحاً لعملياتها.
وفي ظل هذا الدور الفرنسي ـــ الأوروبي الناشط الذي أخرج سوريا من عزلتها المستمرة منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروجها من لبنان، والذي ازداد تقارباً بعد العمليات الإرهابيّة الأخيرة في كل من دمشق وطرابلس، جاءت زيارة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية دايفيد هيل إلى لبنان، لا كتعبير عن تحوّل في سياسة واشنطن تجاه لبنان كما أوحت مقالات وتحليلات كثيرة، بل لاهتمام الولايات المتحدة الاستراتيجي لما يجري في شمال لبنان كجزء من حربها مع «القاعدة»، وللملمة قوى 14 آذار بعد الانهيار الكبير على أثر احتكام حزب الله للسلاح في 7 أيار الماضي لإلغاء قراري حكومة السنيورة المتعلقين بوسائل اتصالات المقاومة وإقالة العميد وفيق شقير. وهنا لا بد من طرح الملاحظات التاليّة:
أولاً: إنّ العمليات الإرهابيّة التي تعرّض لها الجيش اللبناني في مدينة طرابلس جاءت لتعبّر عن تنامي القدرات العسكريّة لدى القوى الإسلاميّة المتطرفة بعد أحداث مخيم نهر البارد، ممّا استدعى حضوراً أميركياً سريعاً ليؤكد على أهميّة دور الجيش اللبناني الآني والمستقبلي في التصدي للتيارات الإسلاميّة المتطرفة؛ وإنّ أميركا وإن كانت منهمكة في أزمتها الاقتصاديّة والانتخابات الرئاسيّة، ما زالت تتابع باهتمام وعن قرب ما يجري شمالاً على الساحة اللبنانيّة، وما يجري داخل سوريا أيضاً بعد الانفجار الذي حصل في دمشق.
ثانياً: جاءت قراءة كل من فرنسا والولايات المتحدة لأحداث طرابلس لتؤكد على تنامي دور القوى الإسلاميّة المتطرفة في شمال لبنان، وذلك خلافاً لبعض أطراف 14 آذار، وخصوصاً سعد الحريري وسمير جعجع اللذين اتخذا من أحداث الشمال ذريعة لإعادة توجيه الاتهامات إلى سوريا من أجل أولاً: مكاسب انتخابيّة إذا حصلت انتخابات، أو تطيير الانتخابات إذا بدت الحسابات عكس ما يتمناه فريق 14 آذار.
وثانياً: للانقضاض على دور الرئيس سليمان في اجتمعات الحوار المقبلة وعلى نتائج زيارته الناجحة إلى سوريا، وخصوصاً في ما يخص العلاقة الدبلوماسيّة بين البلدين. وثالثاً: التأثير إذا أمكن على المقاربات الدوليّة الجديدة للتعاطي مع سوريا والانفتاح عليها.
وفي هذا الإطار، جاء سفر وفد 14 آذار إلى فرنسا متناسياً أنّ فرنسا ـــ ساركوزي غير فرنسا ـــ شيراك، فقفل راجعاً بخفيّ حنين.
ثالثاً: لقد كان الدور الأميركي واضحاً ولا يزال، ولا جديد فيه في مسألة تسليح الجيش اللبناني. فسلاح الجيش الموعود به من الولايات المتحدة هو فقط للقيام بدور أمني داخلي، وللتصدي للتيارات المتطرفة، ولا علاقة له بالاستراتيجيّة الدفاعيّة في وجه الاعتداءات الإسرائيليّة.
لقد جاء في البيان الصحافي المشترك بشأن إطلاق عمل اللجنة العسكريّة اللبنانيّة ـــ الأميركيّة المشتركة أن المشاركين في اللجنة بحثوا «موضوع المساعدات العسكريّة الحاليّة والمستقبليّة التي ستقدم للبنان، بما فيه الحاجة إلى تعزيز قدرات عسكريّة متنوعة لمكافحة الإرهاب». وهذا يعني أنّ الولايات المتحدة لن تقبل بأن يتحول الجيش اللبناني إلى جيش قتالي يستطيع حماية لبنان من إسرائيل جواً وبحراً وبراً.
رابعاً: تبقى المعاني السياسيّة لزيارة هيل ولقاءاته مسرحاً للتأويل.
لماذا كان الياس الفرزلي المقرّب من سوريا ضمن جدول لقاءاته التي عادة تقتصر، بالإضافة إلى الرسميين، على رموز قوى 14 آذار من وليد جنبلاط وسمير جعجع وأمين الجميّل وبطرس حرب، وحتى ميشال المرّ كونه من «المنتفضين» ولو إلى حين على عون، لكنه لم يقطع شعرة معاوية معه ولا مع السوريين. فالعلاقة بين الولايات المتحدة وسوريا ستحكمها في المرحلة المقبلة سياسة التصدي للقوى الإسلاميّة المتطرفة؛ وهذا ليس بجديد، حيث إن موقف الولايات المتحدة أثناء أحداث نهر البارد جاء أيضاً مغايراً لموقف 14 آذار الذي حاول أن يربط بين تنظيم «فتح الإسلام» وسوريا.
خامساً: إذا كان القول بأن هناك استمراريّة في السياسة الاستراتيجيّة الأميركيّة في الشرق الأوسط، أياً كان الرئيس في البيت الأبيض، وهذا صحيح، فلا يجوز أن نغفل أن مقاربات الإدارات الأميركيّة المختلفة وأولوياتها وأسلوبها في أزمات المنطقة يختلف من واحدة إلى أخرى. لهذا نحن في فترة المراقبة والانتظار لنتيجة الانتخابات الأميركيّة، وبهذا تدخل الزيارة ليس من باب تغيير في السياسة الأميركية بقدر ما تدخل في إحياء العلاقة بين قوى 14 آذار ورموزها، والتأكيد على أهميتها في نظر الإدارة المقبلة أكانت جمهوريّة أم ديموقراطيّة.
سادساً: في أجواء زيارة هيل الممهدة للإدارة الجديدة، تبدو الانتخابات النيابيّة المقبلة ونتائجها مسألة مهمة للولايات المتحدة الأميركيّة، أياً كان الرئيس في البيت الأبيض. لهذا تدخل الزيارة ضمن إطار لملمة شمل 14 آذار وفرملة الاندفاعة الجنبلاطيّة في مصالحة حزب الله، وربما للالتفاف على أي إمكان لتنسيق، إن لم نقل تحالف انتخابي بين حزب الله وجنبلاط. فالولايات المتحدة تراهن على أكثريّة نيابيّة جديدة تكون إلى جانبها وتؤمن لها غطاءً شرعياً في مقاربتها لدور الجيش اللبناني، ليس فقط في حربه ضد «المتطرفين»، بل ربما أبعد من ذلك؛ كما تؤمن لها غطاءً شرعياً في مقاربتها لموضوع سلاح المقاومة في المستقل.
سابعاً: بالرغم من الحاجة اللبنانيّة للقاء المرتقب بين السيّد حسن نصر الله والنائب سعد الدين الحريري في إزالة الاحتقان وتخفيف حالة التوتر الداخلي، فليس هناك أي دليل على أن زيارة هيل والسياسة الأميركيّة الراهنة تشجعان حصول هذا اللقاء، لا بل تفضّلان تأجيله إلى ما بعد الانتخابات الأميركيّة، وربما إلغاءه كلياً إذا أمكن.
فالولايات المتحدة لا ترى أنّ الانفتاح المحدود على سوريا الذي حصل من خلال الاتصال بين وزيري خارجيّة البلدين، رايس والمعلم، والذي يرتكز على محاربة عدو مشترك (الحركات الإسلاميّة المتطرفة) سيقود بالضرورة إلى تغيير سياستها القائمة على عزل حزب الله داخليا وعربياً بعد المحاولة الفاشلة في القضاء عليه خلال حرب تموز 2006.
وأخيراً، وفي ظل أجواء الانتظار والترقب لنهج الإدارة الأميركيّة الجديدة ـــ من المرجح أن يكون أوباما الرئيس الجديد ـــ تبدو «المصالحات» بالشكل الذي تأخذه، أي مصالحات من فوق، أفضل ما يمكن أن يقدم عليه أمراء الطوائف في لبنان. فوجودهم وديمومتهم رهن بغياب المصالحة من تحت، المصالحة الحقيقيّة بين المواطنين.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة