نسيم الخوري *إذا كانت باقة الزعماء اللبنانيين الذين كان ضمّهم بائع الورد الجنوبي، والملحاح في الوحدة الوطنية الرئيس نبيه برّي، حول طاولته البرلمانية المستديرة، ليسوا من فصيلة الزهور على تنوّعها وألوانها وروائحها وتنافرها وصراعاتها في الشكل وفي المضمون، فإن عقد الحوار في حدّ ذاته حول طاولة استطالت وتطول في بعبدا، لا نتائج جلساته، هو الحقيقة القصوى الأولى التي يمكن أن يكون قد أدّى إليها جلوس الأطراف الـ15خلف الطاولات. وتستطيل هذه الحقيقة الأولى باستطالة الوقت والجلسات حتّى الاستغراق في التثاؤب. فلا تنتظروا نتائج الحوار!
لأنّ جلوس الزهور أو قعودها أو استواءها في مزهرية مستديرة الشكل، لا يعني ضرورة ملامستها أو مصافحتها أو حبّ بعضها لبعض، فقد أدار عون وجعجع ظهريهما بعضهما للآخر في الجلسة الأولى. ولأنّ مصافحة الزهور وتداخل روائحها المتعددة لا تعني ضرورة أن تأتي عطورها متناغمة تنعقد في رائحة واحدة تتلهّف إلى استنشاقها رئة اللبنانيين في تطلّعهم إلى السلام والعيش والتناسل بهدوء، أو منعقدة في ثمرة من الوحدة الوطنية التي لطالما شرّع اللبنانيون أفواههم ومسام أجسادهم طمعاً بها وتطلّعاً إليها. فكميّة الشوك الذي ينبت في أعناق الزهور وتحت الطاولات لا في أوراقها، هو الجوهر في لعبة الزهور الدامية. وعتق الماء في المزهرية لا يمكن أن يحجب صفاءه أو تعكيره أو توحّله ولا حتّى نتانة روائحه أيّ زجاج في العالم.
والأهمّ من هذا كلّه، المناخ العام الذي يتحكّم بحياة الزهور ومدى ديمومة روائحها في الأرجاء. وهو مناخ قد يحمل العواصف والرياح والأمواج العاتية المستوردة كما قد يحمل الهدوء والصفاء والروية والعقلانية، وفي كلتا الحالين تبدو الزهور اللبنانية تتقدّم بسرعة نحو الصمت، إن لم نقل نحو الذبول، حيث تبدأ لغة الأشواك الحقيقية في الإفصاح عن هذا التهذيب المفرط في لغة الورد!
لا يعني هذا القول التقليل من أهمية ما جرى في جلسات الحوار وما ينتظره اللبنانيون من الجلسات المقبلة، بل يعني أن ثمرات الحوار هي في حصوله، وقد راهن الكثيرون على عدمه. وهذا يعني أن يمسح كلّ متحاور عرق جبينه ويتلمّس شرايين عنقه قبل أن يأتي بأي سلوك أو انفعال أو تهديد أو تخريب، ونحن على مشارف انتخابات برلمانية؛ إذ ليس قليلاً أن تجمع زهوراً من حقول قطر وفرنسا والأردن ومصر والسعودية وسوريا وإيران والمجموعة الأوروبية في كوب واحد ولو جاهروا جميعاً بأنهم لبنانيون!
والولايات المتحدة الأميركية تتأرجح بين إدارتين، والأمم المتحدة تدخل ثقافة الانتظار، وليس سهلاً أن تخترع داخلاً لوطن يبدو مجدداً وكأنه لا داخل له بقدر ما له خارج، ولو جاهر متحاوروه بأن حوارهم وحكومتهم صناعة لبنانية خالصة!
لسنا ننتظر ثمراً يُعقد في زهر تشرين المتشظّي بين لبنان وسوريا، كما بين اللبنانيين في استراتيجية الدفاع الوطني وسلاح حزب الله ومزارع شبعا والمسألة الفلسطينية وسلاح المخيمات والتوطين، والعلاقات السورية ـــ اللبنانية وقوانين الانتخابات النيابية، وغيرها من الملفات المستعصية، بل ننتظر جمراً أو ما يشبه الجمر المتنقل في أرجاء البلد، ما قد يعيدنا في نهاية المطاف إلى طاولة مستديرة أخرى كما كان يحصل دوماً وعنوة، وهنا لبّ المعضلة: حوار قبل الدم لحبسه أم حوار ومال كثير لتسريع الدم وهو كثير لم ينشف بعد في جسد لبنان!
ليست تلك البنود في جدول أعمال الحوار في بعبدا هي المنتظرة، بقدر ما هي بنود وحقائق أخرى تبدو خارج جدول الأعمال المفتوح.
الحوار أولى هذه الحقائق، وبات من الضرورات اللبنانية بشكله وبصرف النظر عن مضامينه ونتائجه، لا سيّما أنه يأتي استجابة لحقيقة ثانية يحملها الحوار، هي أنه يحقق النقطة ما قبل الأخيرة في جدول أعمال حوار الدوحة القطري المدموغ بالكثير من النصائح والضغوطات الإقليمية والدولية المكثفة.
يفترض أن تبقى مناخات الحوار شائعة كما رسمت في الدوحة، ولو لم يُتوصّل إلى نتائج حاسمة أو اتفاقات نهائية، لأنّ الهدوء مطلوب، والاستمرار للتهيؤ الناعم من أجل إعادة تكوين السلطة عبر الوصول إلى الانتخابات البرلمانية وتجاوزها بسلام وهدوء كبند رابع في اتفاق قطر. تُضاف إلى هاتين الحقيقتين في الحوار حقيقة ثالثة، هي انتشال قصر بعبدا من الغيمة الرمادية التي راحت أو كادت تلفّه، وفتح نوافذه وصالاته على أضواء الحوار المطلوب عربياً ودولياً، وجعل العيون تشخص نحو سيد القصر الرئيس، بعدما راحت تجزّره عقب الزيارة الأولى التي قام بها ميشال سليمان إلى دمشق، وما جاء فيها من نصائح أو طلبات عسكرية جاءت على لسان الرئيس بشّار الأسد، سرعان ما بددتها الإيضاحات الرسمية غير الواضحة، قوطبةً للأشداق التي شحذت ألسنتها مجدداً للانقضاض على سوريا والرئيس معاً، ثمّ صولاً إلى الحشود السورية في الشمال، على إيقاعات تلك النقطة / البؤرة السلفية الوحيدة الطرابلسية على شاطئ المتوسط ومخاطرها، التي يصل تهديدها إلى أطراف أوروبا؛ هذا في وقتٍ كان سليمان في أميركا تستقبله وزيرة خارجيتها كونداليزا رايس.
يمكن القول إنّ بعبدا يمكن أن تمتصّ برعايتها لهذا الحوار الأصوات المسيحية المغالية الخبيثة والصادقة معاً، والمطالبة بتعديلات دستورية لمصلحة صلاحيات رئيس الجمهورية.
وتختصر الحقيقة الرابعة للحوار في رغبة عارمة لدى الكثر من طرفي الموالاة والمعارضة، للترتيب النهائي لما حصل في 7 أيار، ووقف تداعياته واستخداماته، لا بل استغلاله انتخابياً، وعلى أكثر من مستوى، وخصوصاً أنّ فريقاً أساسياً من 14 آذار راح يقعد في جرحٍ أسموه 7 أيّار، باتت تنزّ منه مجمل التفصيلات والمواقف السياسية وملامح الفتن الداخلية.
تلك الورشة بدأها برّي، من دون ضجيج إعلامي، عبر تكليف كوادر من حركة «أمل» عقدوا سلسلة كبرى من ورش اجتماعات مع عائلات بيروت، طرحت فيها مختلف الأمور والهواجس والأفكار الحوارية، وأدّت إلى نتائج إيجابية كان يفترض أن توصل ربّما إلى مهرجان مصالحة في بيروت، ولربما تكون تلك المصالحات القائمة محاولات إيجابية موازية للحوار، وهي قطعاً لا تتجاوز المصافحات، والتهيب للمستقبل.
أما الحقيقة الخامسة للحوار، ففي المحاولات الفاشلة لصرف الأنظار عن فؤاد السنيورة الذي لم يرضِ ترؤسه للحكومة قسماً كبيراً من اللبنانيين، كما لصرف النظر عن تعثّرها وكيدها، وخصوصاً في مسائل ملحة مثل معضلة الكهرباء والاتصالات وغيرها من المسائل الاقتصادية والاجتماعية التي تبدو الحكومة عاجزة عن مقاربتها، الأمر الذي يجعلها حكومة البند الواحد، أعني التحضير للانتخابات اللبنانية لا أكثر.
وعلى الرغم من أن الفريق السلطوي في الحكومة يحاول القفز فوق فشله، كما فوق التصدّع الكبير الذي مُني به فريق السلطة، فإنّ الفريق المعارض في الحكومة بالمرصاد لكشف الحقائق وما تيسّر من الملفات الحافلة بفضائح الهدر.
وليست الحقيقة السادسة سوى امتصاص أزمة الغلاء والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يكابد منها اللبنانيون، في زمن الارتجاجات المالية والنقدية العالمية، واستفحال الديون والبطالة والهجرة في لبنان.
أمّا الحقيقة السابعة التي تتطلع إليها هذه الحقائق الست، ففي الانتخابات البرلمانية التي تتجاوز في تحالفاتها مجمل الحقائق والمصالحات الأخرى المنتظرة.
* أستاذ جامعي