إسكندر منصور *ذكر مؤرخو فرق الكلام الإسلاميّة أنّ اسم المرجئة يشتق من فعل أرجأ الذي يعني التأخير. الإرجاء أو التأخير، ومنه سُميّت المرجئة. ويقول ابن الأثير إنهم سموا «مرجئة لأنهم قدّموا القول وأرجأوا العمل، أي أخّروه». بدأت القصة على أثر موقف الخوارج بالنسبة إلى مرتكب الكبيرة في الإسلام، حيث قالت المرجئة، بعكس الخوارج، إنه لا يجوز تكفير إنسان أقرّ بلسانه أو بقلبه أنه مسلم مهما كانت أعماله أو مهما ارتكب من المعاصي. فالله وحده صاحب الحكم يوم الآخرة، وأبناء الأمة ما عليهم سوى إرجاء الحكم لله وحده. هكذا خرجت بالنسبة إلى المرجئة الأحكام من أيدي الإنسان وأبناء الأمة وحلّت في العالم الآخر. قيل الكثير عن تبني بني أميّة لمبدأ الجبر، أي أن العبد (الإنسان) مجبر في أفعاله ولا حريّة له في اتخاذ القرار. فكان مبدأ الجبر وما قالت به المرجئة من إرجاء الحكم إلى الله وحده في اليوم الأخير يخدم سياسية بني أميّة الذين كانوا على رأس السلطة على أثر اغتيال الخليفة الرابع الإمام على بن أبي طالب وإعلان معاوية بن أبي سفيان نفسه خليفة.
كثرت الثورات على حكم بني أميّة كونهم «اغتصبوا» الخلافة، وهذا ما يتعارض مع الإسلام وما جاء به النصّ في نظر أنصار الإمام علي والذين تشيّعوا لأهل البيت. لهذا كانت المرجئة، كما كان مبدأ الجبر، خط الدفاع الديني واللاهوتي الذي تبناه بني أميّة من أجل إسكات المعارضة وبث فكرة أن الإنسان مجبر في أفعاله، وأنّ إرجاء البت في صحة إسلامهم و«حقهم» في الخلافة وأفعالهم يعود لله وحده.
في ذكرى شهداء القوات اللبنانيّة، جاء خطاب الدكتور سمير جعجع ليعيد حضور المرجئة من جديد. فكما هناك ماركسيون جدد ومحافظون جدد، أصبح هناك مرجئون جدد في لبنان. وسمير جعجع أعاد الاعتبار من جديد لهذا المذهب الكلامي. خاطب جعجع معارضيه قائلاً: «كفى تزويراً للتاريخ، اتقوا الله فهو وحده الحاكم الديّان».
هنا أراد جعجع أن يُخرِج فعل المحاكمة والإدانة والحكم من أيدي البشر، اللبنانيين، ويرجئها إلى يوم الآخرة، لأنّ «الله هو وحده الحاكم الديّان»، وما عداه لا حق له ولا سلطة ولا كلمة في ما يخصّ فعل الإدانة.
هناك بعدان لاجتهاد سمير جعجع. البعد الأول وهو بعد لاهوتي خالص يتفق معه كل من كان مؤمناً. وهذا البعد اللاهوتي يقول إنّ الله بالنسبة إلى المؤمن هو الديّان الوحيد لا شريك له في الدينونة؛ يعرف ما في القلوب من أسرار ونوايا، وأيضاً يعرف أنّ الخطيئة مرافقة للإنسان في مسيرته، وأنه هو وحده الذي يغفر ويسامح لأنه إله غفور سميح، كما أنه وحده يحجب الحياة الأبديّة ويمنحها.
فإن كان البعد الأول بعداً لاهوتياً، فالبعد الثاني يكون بعداً إنسانياً/ أرضياً يدخل في إطار تجربة الإنسان وعلاقته مع أفراد مجتمعه من خلال القوانين الوضعيّة والسلطة أو الجهاز التنفيذي المنوط به تنفيذ القوانين التي تحكم علاقات البشر بعضهم ببعض.
هكذا جاء سمير جعجع باعتذاره ليوحِّد بين البعدين، اللاهوتي والأرضي، من أجل إعلاء شأن اللاهوتي، وليقول لنا إنّ الله وحده الديّان ولنرجئ الأحكام على «المخالفات والارتكابات» التي «كانت وللأسف الكبير شنيعة ومؤذية» كما جاء على لسان صاحب الاعتذار، إلى يوم الجلوس في حضرة الديّان.
الاعتذار خطوة أساسيّة وجوهريّة وضروريّة لإزاحة عبء ثقيل من الألم العميق داخل الإنسان المذنب، وربما كان هذا العبء الثقيل وما يزال يقرع مضجع جعجع، كما أن الاعتذار يترك حالةً من «الارتياح» النفسي لدى أهالي الضحايا، وخاصة الأبرياء منهم، وهم كثر في هذه الحالات.
وبدون أي حكم مسبق، يجب الإقرار بأنّ سمير جعجع قد لامس هذا الموضوع وخطا الخطوات الأولى ـــ وربما ستليها خطوات أخرى ـــ ولكنها ما زالت ناقصة في هذا الطريق. كما أنه من حق جعجع كمسيحي مؤمن أن يقول إنّ الله هو الديّان وهو وحده يعرف إن كان اعتذاره مناورة أو «صادقاً وكاملاً عن كل أذيّة أو خسارة أو ضرر غير مبرّر تسببنا به».
ولكن ما يطلبه جعجع، بالإضافة إلى الغفران، من الله في يوم الآخرة ـــ وهنا لا غبار على أن هذا المنحى هو مغفرة من نوع آخر وعفو من نوع آخر ـــ مغفرة المجتمع وعفوه. فبعدما حصل على العفو القانوني، يريد من المجتمع إعادة الاعتبار إليه كفارس كبا حصانه وهو في طريق تأدية «واجباته الوطنيّة». فالواجب الوطني بالنسبة لجعجع كان الأساس، والضحايا كانوا صدفة في طريقه لتأدية الواجب.
وهنا تتضحّ ماهيّة الواجب الوطني في نظر سمير جعجع، وهي إلغاء الآخر المسيحي حتى إن دعت الحاجة والواجب الوطني إلى إلغاء جسديّ كما حصل في إهدن، حيث قتل بالإضافة إلى طوني فرنجيّة، ثلاثين من أفراد عائلته ومرافقيه، أو مع المنسنيور خريش، أو في اغتيال العميد كنعان؛ أو في إلغاء رمز الشرعيّة رئيس وزراء لبنان رشيد كرامي. فبنظر سليمان فرنجيّة، فإنّ جعجع اعتذر من الذين قُتِلوا أثناء تأدية «واجبه الوطني» في اغتيال طوني فرنجيّة ورشيد كرامي والمنسنيور خريش والعميد كنعان وبعض قيادات القوات. لهذا، وبنظر أهل الضحايا الذين قصد جعجع إلغاءهم، فإنه لم يعتذر منهم، وبدورهم صرّح بعضهم بأنهم لن يسامحوا: «لم ولن أسامح منفذي الجريمة البشعة الذين يحاولون اليوم تغطية جرائمهم التي لا تُعدّ ولا تحصى تحت لواء الواجب الوطني». هذا ما قالته زوجة العميد كنعان الذي اغتيل في منزله على يد مسلّحي «القوات اللبنانيّة».
يعرف جعجع أنّ العفو القانوني الذي حصل عليه يضعه فقط خارج السجن، ولكنه لم يشمل عفو المجتمع والشعور بأن سَجْنه كان ظُلماً. أراد جعجع من الاعتذار ـــ وبالرغم من أني لست في موقع الحكم على صدقيّة اعتذاره أم لا، أقرّ بأنها خطوة أولى ومهمة ـــ ليس فقط إرجاء الحكم النهائي للإله الديّان الوحيد، بل عفو المجتمع، وخاصة المسيحيين اللبنانيين، وهذا ما لم يحصل عليه.
المسألة ليست لاهوتيّة يكمن حلّها في اليوم الأخير، بل مسألة يدخل في صلبها الاعتراف بالجرائم وتحمّل المسؤوليّة وتقبل النتائج السياسيّة مهما كانت، وفوراً، لا إرجاؤها إلى يوم الدينونة كما أرادها جعجع في اعتذاره. ورب قائل إنّ إعادة المحاكمات مسألة صعبة بعدما شرّع مجلس النواب عفواً عاماً، وأنّ جعجع قد دفع الثمن وحده من بين زعماء المليشيات بسجنه 11 سنة، وهذا قول صحيح، فإنّه آن الأوان للمسامحة وعدم نبش مقابر الماضي رأفة بهذا الشعب والوطن.
الجواب أنّ المطلوب ليس إعادة المحاكمات بل أولاً: الاعتراف الكامل من جعجع بما حصل، لأنّ أهالي الضحايا يستحقون هذا الاعتراف والاعتذار المباشر. وثانياً: أن يبادر جعجع لفتح ملف المفقودين، لأنّ أهلهم يستحقون أن يعرفوا ما حلّ بأحبائهم، وإن تطلّب ذلك فتح مقابر الماضي الجماعيّة منها والفرديّة، الحقيقيّة والوهميّة. إنّ هاتين الخطوتين ستساهمان ليس فقط في بلسمة جراح الحرب الأهليّة المفتوحة والمستمرة، بل في دفع الآخرين، وهم ما زالوا أحياءً، أفراداً عاديين ولاعبين كباراً على مسرح السياسة اللبنانيّة وخارجها، ينتمون إلى كل الجهات والفِرَق، لأن يفتحوا دفاترهم وملفاتهم واعترافاتهم.
إذا أردنا فعلاً أن نتحرر من عبء الماضي، وعبء ماضينا ثقيل جداً من قتل واغتيالات وخطف وتطهير طائفي ومذهبي، إلى «حرب مخيمات» ومجازر صبرا وشاتيلا، فعلينا أن نحاور الماضي ونستنطقه بلغة الاعتراف والصراحة والنقد لا أن نتجاهله وندفنه وكأنه لم يكن.
لقد خطا جعجع في اعتذاره أولى خطواته نحو «القداسة». فهل يتابع الطريق ويقول صراحة ما عجز عن قوله خلال السنين الماضية؟
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة