إسكندر منصور *غزت مفردات، ظنّ كثيرون أنها غابت إلى الأبد، عناوين الصحف وأغلفة المجلات الأميركيّة والعالميّة، تتعرض لمستقبل الرأسماليّة وإمكان خروجها بنجاح من أزمتها الأخيرة. أن تكون الرأسماليّة موضوع بحث بصيغة الشك في مستقبلها وجدواها في إكمال مسيرة التقدم التي حملت لواءها منذ أن هزمت تحالف الكنيسة والإقطاع في أوروبا ليس بالجديد، وخاصة بعد «هزيمتها» سنة 1929 ودخول الكينزيّة على خط إعادة ترتيب أولوياتها و«اكتشاف» الدولة ودورها في إنعاش الرأسماليّة وإغنائها ومدّها بأوكسيجين الحياة. فقارئ المجلات الدوريّة ومتابع البرامج التلفزيونيّة في أميركا يُفاجأ من الإكثار من عناوين وتعابير من نوع «كيف ننقذ الرأسماليّة» و«غروب الرأسماليّة الأميركيّة» و«الرأسماليّة كما عرفناها قد ذهبت» و«أزمة الرأسماليّة الأميركيّة».
وهكذا، عاد تعبير «أزمة الرأسماليّة» و«الطبقات الاجتماعيّة» و«البعد الطبقي» إلى سوق التداول الأميركي، وبدأ أكثر المحللين، ومنهم المحافظون، نقدهم اللاذع للسياسة الماليّة التي أتاحت رفع المراقبة عن «وول ستريت»، ودعوا، وبشكل فيه شبه إجماع، إلى عودة القوانين التي تحكم عمل «وول ستريت» بإشراف الدولة والحكومة والمؤسّسات الفدراليّة.
كان النقاش الدائر حول الرأسماليّة والأزمة الاقتصاديّة الأخيرة، ومدى ضرورة إقحام الدولة في الحل، يجري ليس فقط في أوساط الخبراء والدوائر الجامعيّة والمؤسّسات الماليّة والاقتصاديّة، بل أصبح جزءاً رئيسياً من البرامج الاقتصاديّة للمرشحين الرئيسيين للرئاسة الأميركيّة، لا بل استحوذ على معظم اهتمامات حملاتهم الانتخابيّة، لما له من انعكاسات، وما فيه من تداخل بين الداخل الأميركي الاقتصادي والاستقرار العالمي والدور القيادي الأميركي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
وكنتيجة مباشرة لحدّة الأزمة الاقتصاديّة، بدأت الاستطلاعات للانتخابات الأميركيّة تشير بشكل ثابت إلى قرب انتقال باراك أوباما إلى البيت الأبيض. فمنذ البداية، لم ينظر كثيرون إلى ترشيح أوباما جدياً، نظراً لقوة خصومه الديموقراطيين، فضلاً عن الجمهوريين، وثانياً على خلفية أصله الأفريقي وجذوره الإسلاميّة.
وطالت حملة الديموقراطيين ضدّه مدى تأييده لإسرائيل، حيث نشرت جريدة «لوس أنجلس تايمز» مقالة مطولة عن علاقته برشيد الخالدي الذي كان مديراً لدراسات الشرق الأوسط في جامعة شيكاغو، والذي عمل لفترة مستشاراً للوفد الفلسطيني المفاوض قبل أن ينتقل إلى جامعة كولومبيا.
وخلال الأسابيع الماضية التي سبقت الانتخابات، أطلق الجمهوريّون حملات إعلاميّة مشوّهة تعرضت لشخص أوباما لأنه «مسلم» و«عربي» و«يساري» و«اشتراكي»، يريد أن يوزع الثروات على الجميع و«غير وطني» و«صديق للإرهابيين»، وأخيراً لأنه صديق للخالدي الذي وُصف بأنه الناطق باسم منظمة التحرير الفلسطينيّة.
كل هذه الحملات العنصريّة، وخاصة ضد كل ما ومن هو عربي ومسلم، التي لم يرتفع صوت واحد في صفوف حملة أوباما للتنديد بها، بل جاء التنديد على لسان الجمهوري كولن باول قائلاً: «حتى لو كان أوباما مسلماً، ألا يحق للمواطن الأميركي المسلم أن يكون رئيساً»؟
كما جاءت ردود عديدة في الصحافة الأميركيّة للدفاع عن الخالدي، طالبة من ماكاين وقف حملة التعبئة العنصريّة ضد العرب الأميركيين والمسلمين. فخوان كول أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة ميتشغن طالب بأن يقدّم ماكين اعتذاراً شديداً من العرب الأميركيين، وخاصة من منافسه على الرئاسة العربي ـــ الأميركي رالف نادر؛ وفي الإطار نفسه، كتب سكوت هورتن دفاعاً عن الخالدي بعنوان «الماكارثيّة الجديدة»، عدد فيها إنجازات الأخير كمؤرخ من الطراز الأول وبعيد عن التطرف.
لم تستطع أن تؤثر هذه الحملات على تصاعد التأييد لأوباما، وخاصة بعد المناظرات الثلاث مع ماكاين.
إن العامل الاقتصادي ليس فقط فاعلاً، بل كما قال أحد الماركسيين «العامل المقرر في التحليل الأخير». فمع انهيار المؤسسات الماليّة وخسارة بلايين الدولارات من مدخرات التقاعد التي ينتظرها ملايين الأميركيين الذين يقاربون سنّ التقاعد، أصبح الوضع الاقتصادي هو الشغل الشاغل للأكثريّة الساحقة من الأميركيّين، وغابت عن المناظرات مواضيع كثيرة كانت تثير جدلاً وانقساماً بين الأميركيين في معظم الانتخابات السابقة. مثلاً، كان الإجهاض وحقوق المهاجرين «غير الشرعيين» ومسألة حق الصلاة في المدارس الحكوميّة والموقف من الإعدام، بالإضافة إلى الموقف من حقوق المثليين، نقاط خلاف، وكان المرشحون يتنافسون والناخبون ينقسمون بين مؤيدين ومعارضين.
أما مع شروق شمس الأزمة الماليّة الحاليّة، فغربت كلياً هذه المواضيع من خطب المرشّحين، ليس فقط للرئاسة بل أيضاً المرشحين لمجلسي النواب والشيوخ، وتبوأت المسائل الاقتصاديّة الصدارة، المتمثلة أولاً: في إيجاد فرص جديدة للعمل، وخصوصاً أن مئات آلاف العمال والموظفين قد خسروا عملهم ووظائفهم من جراء إقفال الكثير من الشركات الكبرى والمحال التجارية الواسعة الانتشار في كل الولايات الأميركيّة. وثانياً: بروز الأزمة العقاريّة بكل ثقلها حيث إن ملايين المالكين أصبحوا عاجزين على المحافظة على ملكيّة منازلهم ففقدوها أو أنهم في الطريق نحو فقدانها. وثالثاً: توقُّف البنوك عن مدّ المستثمرين الكبار والصغار بالسيولة الضروريّة لإنعاش اقتصادهم المنكمش، حيث بدا الكساد والركود ميزة المرحلة الحاضرة والمقبلة. لهذا، نسيت شريحة واسعة من الناخبين أو ربما تناست لون أوباما وجذوره (طبعاً باستثناء أقليّة يمينية عنصرية)، وأصبح إيجاد الحلول للأزمة الاقتصادية الراهنة التي طال تأثيرها كل عائلة لا بل كل فرد أميركي ـــ وإن كان بشكل متفاوت ـــ الهدف الأول والأخير للناخب الأميركي.
فالاستطلاعات الأخيرة دلّت على أن نسبة الناخبين الذين تأثروا بعامل العرق واللون قد تغير وانحسر بشكل ملحوظ جداً عما كان عليه قبل الأزمة الاقتصاديّة الأخيرة. وهكذا بدأ التأييد لماكاين الذي بدا كمرشح استمرار الأزمة بفعل تماهيه مع سياسة جورج بوش الاقتصاديّة والخارجيّة في الانحسار والتراجع؛ وأخذت المعركة الانتخابيّة تخاض على أراضي الجمهوريين التقليدية وفي عقر دارهم؛ أي في الولايات التي أيدت المرشحين الجمهوريين خلال انتخابات عديدة في السنين الماضية. فنتيجة للأوضاع الاقتصاديّة السيئة، وازدياد البطالة، وكثرة الذين خسروا بيوتهم والذين في طريقهم إلى خسارتها، استطاع أوباما أن يحقق انتصارات في ولايات كانت تُعدّ من معاقل الجمهوريّين.
وبعكس تراجع ماكاين، فقد بدأت أسهم أوباما في الارتفاع، وخصوصاً في ولايات لم تطأها أقدام الديموقراطيين لفترة طويلة. وهكذا، أعاد أوباما رسم الخريطة السياسيّة الداخليّة في الولايات المتحدة من جديد، وأعطى الحزب الديموقراطي أكثريّة في مجلسي الشيوخ والنواب، بالإضافة إلى رئاسة الجمهوريّة.
لا نستطيع أن نفصل بين الأزمة الاقتصاديّة وطرق مقاربتها من جهة، والتوق من جديد إلى الواقعيّة السياسة في مقاربة النزاعات الدوليّة ورسم السياسة الخارجيّة للولايات المتحدة. فنتائج انتخابات الرئاسة مثّلت صرخة مدوّية ضد الحرب على العراق، حيث كان لموقف أوباما المعارض منذ البداية، الأثر البارز في هزيمة هيلاري كلينتون التي أيدت الحرب، ومن ثم في هزيمة ماكاين الداعي ليس فقط لحرب طويلة الأمد، بل إلى بدء حرب جديدة على إيران.
إنّ فوز أوباما يعني انتصاراً للمدرسة الواقعيّة في السياسة الخارجيّة المتحررة من البعد الأيديولوجي الذي صبغ به المحافظون الجدد السياسة الخارجيّة للولايات المتحدة خلال فترة جورج بوش.
وأخيراً مثّل انتصار أوباما تتويجاً لنضال مرير وطويل (لم ينته بعد) لجميع الأميركيين من أصول أفريقيّة الذين وقفوا الساعات الطويلة في الصفوف ليدلوا بصوتهم بفخر واعتزاز. نعم، أميركا ما قبل أوباما غير أميركا مع وما بعد أوباما؛ ولكن لن تُلمَس ثمار هذا التغيير في عالمنا العربي إلا إذا وضعنا شعار «اعقل وتوكل» نصب أعيننا. فهل من يسمع؟
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة