strong>سهير أبو عقصة داود*يريد أولمرت أن يودع رئاسة الوزراء ليس كما دخلها عام 2006. يريد أن يمحو عار فشله في حرب تموز التي كلفته الكثير فقرر أن يكتب بدم الفلسطينيين تاريخاً جديداً يمجد فيه. هو نفسه صرح قبل الحرب على غزة بأن المستوطنين يقومون بـ«بوغرومات» فجاء سريعاً لينفذ بوغروماً أبشع. وسيفشل أولمرت كما سيفشل من سانده من الحكام العرب ومن وقف متفرجاً ومن صرح تصريحات «وطنية» وهدد بالتفكير في إغلاق المكتب التجاري لإسرائيل ولكن لم ير داعياً لذلك. ولا داعي للخوض في المتآمرين الذين بلا خجل ولا رحمة مثّلوا الضوء الأحمر والغطاء لهذه الجريمة. فقد فضحتهم شعوبهم والمطلوب أن تقتلعهم من مواقعهم إلى الأبد.
حدّثتني صديقة مقرّبة تعيش في رام اللّه في الضفّة الغربية المحتلّة أنّ انقساماً شديداً يسود الشارع الفلسطيني هناك حتى بعد أهوال المجازر وبحر الدم المسفوك في غزّة. جماعات دحلان المستقرّة هناك «تتشفّى» وتنتظر إبادة حماس (سياسيّاً) ولا يهمّ كم سيباد معهم من الأطفال والأبرياء والعُزَّل.
وحركة فتح منقسمة أيضاً في ما بينها: هنالك من يقف مع المقاومة وهنالك من يرى بحماس المسؤول الأول عن خلق الأجواء والفرصة أمام العالم لحرق غزة تحت أقدام أهلها. ومن الناس العاديين من يرى أن تهاوي شعبية حماس دفعهم إلى مثل هذه المعركة ليستعيدوا ثقة الشارع وليكسبوا شرعية دولية لم يكتسبوها في «الانتخابات الديموقراطية».
ما أشبه اليوم بالتاريخ الذي لم تغلق صفحته بعد. نكبة 1948. غيّرت النكبة وقيام الدولة الصهيونية وجه الشرق الأوسط وإحدى نتائجها كانت قيام العديد من الانقلابات والثورات في بقع عدة منها مصر. كان الغليان الشعبي في قلب المؤسسة العسكرية كبيراً لأسباب داخلية أضيفت إليها الهزيمة النكراء في ضياع فلسطين وتشتيت أهلها. الملك فاروق أجبر على التنحي ومات في المنفى. ماذا سيكون يا ترى مصير حسني مبارك، فاروق العصر؟
عشرون يوماً طويلاً طويلاً على الذين يعيشون تحت القصف الجبان. والعالم يتفرج كما تفرج عام الاقتلاع. والحكومات العربية تتفرج كما تفرّجت منذها. والشعوب التي خرجت بملايينها في جميع بقاع الأرض لم تقدر بعد على أن تعاقب حكوماتها وقادتها حتى ولو بفردة حذاء. لن أناقش إذا كان القادة العرب قادرين على المواجهة والوقوف صفاً واحداً مع شعوبهم ومع الشعب الفلسطيني. فهم قادرون. لم يكن عبد الناصر ديموقراطياً لكنه اكتسب الشرعية بمواقفه الوطنية والقومية، رغم العديد من الأخطاء العظيمة التي لا مجال للخوض فيها الآن. كانت هنالك فرصة متاحة لمبارك وغيره من زعماء العرب والنفط الذين رغم دكتاتوريتهم يمكن لهم ولو مرة واحدة أن يكتسبوا شرعية. لكنهم رفضوا هذه اللحظة التاريخية ليس لأنهم غير قادرين بل لأنهم فاسدون. والفاسد لا يقف أبداً لا مع شعبه ولا مع أي قضية عادلة. في الخمسينات مثّلت بريطانيا، بسبب تاريخها الاستعماري الطويل، الوجه القبيح للشعوب المتحررة وكانت سياسات الولايات المتحدة غير معروفة بعد للشرق الأوسط أو لأميركا نفسها نتيجة العزلة الدولية التي عاشتها حتى نهايات الحرب العالمية الثانية. العديد رآها في شكل مثالي في إيران ومصر في بدايات الخمسينيات إلى أن أتت إطاحة السي اي ايه وبريطانيا برئيس الوزراء محمد مصدق في إيران. وفي مصر تحوّل عبد الناصر إلى زعيم عظيم بعد عدوان 1956 عندما تدخلت أميركا (والاتحاد السوفياتي) ليفرضا الانسحاب المهين لبريطانيا وفرنسا ومعهما إسرائيل التي كعادتها عرفت كيف تستفيد من الهزيمة ومن الربح. بعضهم اعتقد أن موقف أميركا نتج من مثالية. عبد الناصر لم يستطع أن يقرأ التاريخ جيداً ولا أن يفهم أميركا: لقد اعتقد في الـ1967 أن بإمكانه إعادة نصر 56 لكن فهم اللعبة الدولية أفشله.مبارك وغيره من حكام النفط وغيرهم من الملوك الذين تبرعوا بالدم لغزة وهم يطعنونها بالقلب بلا خجل يعتقدون أنهم يفهمون اللعبة الدولية، لكن إن لم تفشلهم شعوبهم، التاريخ سيفشلهم. وأملي ألّا تنتظر الشعوب تحريراً لها يأتي على دبابات أميركية، ولا تستبعدوا أن تصبح قريباً دبابات إسرائيلية.
وإذا كنا قد تعلمنا الدرس من إسرائيل ومن الولايات المتحدة والأمم المتحدة والجامعة العربية والحكومات العربية عن ظهر قلب منذ ستين عاماً وأكثر، نكون قد عرفنا أن لا أمل يرجى منهم جميعاً. أثلجت الصدور التظاهرات العظيمة في كل بقاع الأرض لنصرة فلسطين وغزة فالمطلوب الحفاظ على هذا الإرث وعلى توظيفه لدى الشعوب الصديقة والحكومات الحكيمة في العالم. لكن قبل كل شيء المطلوب دائماً وأبداً وحدة شعب يلتف حول قيادة حكيمة. لقد عرف عرفات في أوسلو كيف يفرق هذا الشعب الذي حافظ على صمودة بإيمانه بعدالة قضيته. الشعب الفلسطيني اليوم في خطر ليس بسبب همجية إسرائيل مهما حاولت بل بسبب تفتّته وشرذمته. ويجب الوعي أن حماس ليست الضحية في الحرب الأخيرة على غزة وأنها والسلطة مسؤولتان مسؤولية كبرى بأنه لم يمنح الشعب الفلسطيني القيادة التي يستحقها. ما بعد غزة تريد كلتاهما تحقيق انتصارات سياسية تضمن لهما سلطة موهومة تحت الاحتلال تدفع ثمنها جثث الأطفال. وتتحمل فتح مسؤولية أعظم اليوم فحين تقوم المقاومة في غزة بالاستمامة تقوم السلطة بلا خجل بمنع التظاهرات ومهاجمة المتظاهرين.
المطلوب قيادة وطنية بديلة من وطنيي فتح وحماس واليسار الذي غاب صوته، اليسار كأنه لم يكن موجوداً أبداً.
آن الآوان لأن يعلو صوت جديد يستحقه الفلسطينيون في معركتهم الطويلة. هذا هو التحدي ما بعد غزة.
* كاتبة فلسطينية
محاضرة في السياسة ــــ جامعة كوستال كارولينا