هيفاء زنكنة*تقدّم إلينا ردود الأفعال الجماهيريّة والرسميّة، منذ بدء العدوان الصهيوني على غزة، دروساً تستحق التفحص بالتفصيل مستقبلاً. وسأوجز هنا بعض ملامحها العامة، متناولة بالتحديد ردود الأفعال الجماهيرية في بريطانيا، باعتبارها عرّابة الكيان الصهيوني الواقفة، في سياستها الخارجية كتفاً بكتف مع أميركا، في خلق «الشرق الأوسط الجديد»، القائل «نعم سيدي، كما تريد سيدي» لإسرائيل وأميركا معاً.
لقد انطلقت التظاهرات في لندن، منذ اليوم الأوّل للغزو. وبمرور الأيام واستمرار العدوان، ومع عجز الحكومات العربية والغربية والمنظمات الدولية عن اتخاذ أي موقف فاعل وإيجابي لمصلحة أبناء القطاع المحاصرين، ومع اشتداد القصف الجوي بجميع الأسلحة المحرّمة، ازدادت أعداد المتظاهرين والمعتصمين يومياً أمام سفارة العدو الصهيوني في لندن. وارتفعت الأصوات، بكل اللغات، وعلى اختلاف الأديان والقوميات، وعلى اختلاف الأعمار، متضامنة مع حق الشعب الفلسطيني في المقاومة وصمود أهل غزة بوجه العدوان الصهيوني وضد الاحتلال الغاشم وسياسته الإجراميّة: نساءً ورجالاً وأطفالاً. من منظّمات السلام ومناهضة الحروب إلى دعاة بناء العدالة الاجتماعية والاشتراكية، إلى جمعيات المحامين والمعلّمين ونقابات العمال. من مساندي «حملة فلسطين» ومنظمة «أوقفوا الحرب» إلى «المبادرة الإسلاميّة في بريطانيا». من المسيحيّين والمسلمين واليهود والبوذيّين إلى العلمانيّين. من الإسلاميّين إلى الماويّين. لم تعُد فكرة المقاومة ضد المحتلّ محتكَرة من جانب شعب دون غيره، أو فكرة العدالة الاجتماعية والحرية وحقوق الإنسان ملكاً لدولة أو حكومة أو مؤسّسة. مفردات المقاومة باتت عالميّة كما هي صور ضحايا الاحتلال والقصف الهمجي والأطفال المضرجين بالدماء واستهداف المدارس وأماكن العبادة. صارت صور جزاري الشعوب ومضطهديهم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واحدة من فلسطين إلى العراق إلى لبنان إلى أميركا اللاتينية إلى أفريقيا إلى معظم بلدان الشرق الأوسط. وارتفعت أعلام فلسطين والعراق ولبنان وحزب الله وإيران وتركيا معاً بأيدي المتظاهرين، لتؤكد الجماهير التي خرجت بالعدد والزخم نفسيهما قبل الغزو الأنجلو أميركي الصهيوني على العراق بأنها، وإن لم تتمكّن من وقف الحرب العدوانيّة على العراق، فإنّها أسهمت بشكل من الأشكال، ومن خلال دعمها لمقاومة الشعب العراقي، في إيقاف التوسّع الإمبراطوري نحو سوريا وإيران.
ومن بين ردود الفعل المتزايدة، الكتابة إلى الصحف وأعضاء البرلمان، حتى إن محرر صفحة الرأي في صحيفة «الغارديان» أخبرني منذ أيام أنهم يتسلّمون عشرات المقالات تلو عشرات أخرى بلا توقف يومياً، تعبيراً عن الغضب. ولم تقتصر كتابة المقالات على العرب والمسلمين البريطانيين والنخبة من اليساريين، كما هو معتاد في حالة وقوع اعتداء على بلد عربي أو مسلم، بل امتدت لتشمل ما يسمى الجالية اليهودية. فقد أرسل منذ أيام عدد من الأكاديميين والفنانين والشخصيات المعروفة، رسالة نشرت في صحيفة الغارديان، جاء فيها: «نحن الموقّعين أدناه من أصول يهودية. يذكرنا مرأى أجساد الأطفال القتلى وأشلائهم وقطع المياه والكهرباء والطعام عن سكان غزة بحصار الغيتو اليهودي في وارسو. إن السبب الحقيقي للهجوم على غزة هو أن إسرائيل مستعدة للحديث مع العملاء فقط. إن جريمة حماس الأساسية ليست الإرهاب بل رفضها قبول أن تصبح بيدقاً في أيدي حكام الاحتلال في فلسطين. إن قرار الاتحاد الأوروبي، الصادر في الشهر الماضي، بتصعيد العلاقات مع إسرائيل، بدون فرض أية شروط تتعلق بحقوق الإنسان، شجع العدوانية الإسرائيلية أكثر فأكثر. إن زمن إرضاء إسرائيل قد انتهى. كخطوة أولى، يجب على بريطانيا سحب سفيرها في إسرائيل والشروع، كما حدث مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا، في مقاطعة البضائع ووضع حد للاستثمارات والحصار الاقتصادي».
وكتب الموسيقي اليهودي دانيال بارينبوم، وهو المعروف بشراكته الموسيقية مع المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد، رسالة نشرت في صحيفة الهيرالد تربيون العالمية، قائلاً: «لو كان غرض الحكومة الإسرائيلية تدمير حماس، فيجب أن نتساءل إذا ما كان هذا ممكناً. وإذا ما كان الجواب بالنفي، فإن الهجوم ليس قاسياً وهمجياً وشائناً فحسب، بل إنه بلا معنى أيضاً. وإذا ما افترضنا بأن القضاء على حماس ممكن عسكرياً حقاً، فكيف ستواجه إسرائيل رد الفعل في غزة حينئذ؟ إن تاريخ إسرائيل القريب يشير إلى أنه اذا ما جرى مسح حماس من الوجود بواسطة القنابل، فإن مجموعة أخرى ستولد، مجموعة ستكون أكثر تطرفاً من حماس، وأكثر عنفاً وأكثر كراهية لإسرائيل».
ولم تأت الاستجابة لطلب الأكاديميين اليهود بطرد السفراء الإسرائيليين ومقاطعة الكيان الصهيوني اقتصادياً وإنهاء حملات التطبيع الثقافية، وهو طلب متزامن مع مطلب الجماهير العربية والإسلامية وجماهير معظم دول العالم، لم تأت الاستجابة من المسؤولين البريطانيين ولا الحكام العرب، بل من رئيس دولة نائية غير عربية وغير إسلامية. إنه هوغو تشافيز، رئيس الدولة الوحيد الذي أمر بطرد سفير الكيان الصهيوني من بلاده تضامناً مع أهل غزة، فصار نداء «وا شافيزاه» بديلاً منطقياً وتعبيراً عن مرارة اليأس من الاستنجاد بمن يحملون في دواخلهم روح العبودية والخنوع.
ما نمر به حالياً هو عصر الانحطاط العربي الثالث خلال ست سنوات فقط. حدث الأول عند غزو العراق واحتلاله وما تلاه من تعاون عربي رسمي مع حكومة الاحتلال. وحدث الثاني عندما وقفوا متفرجين على محاولة غزو لبنان. وها نحن الآن نعيش محصلة «التطبيع والتهدئة» وضخ الكيان الصهيوني بالغاز، بينما يحرم أهل غزة أساسيات الحياة ويحرم الشباب المقاوم السلاح وحقه الطبيعي في مقاومة الاحتلال.
ولعلّ أكثر ملامح عصر الانحطاط الثالث إساءةً إلى روح المقاومة الواحدة، هو تناثر رذاذ التفتيت والتفرقة لتشويه وحدة المقاومة في فلسطين والعراق ولبنان. وكأن بالإمكان عزل الكيان الصهيوني عن أميركا، أو أميركا عن عملائها الذين يجمّلون صورتها ويعزّزون وجودها بين ظهرانينا. وكأن القصف والقتل الدموي واستخدام الفوسفور الابيض والنابالم والقنابل العنقودية في غزة اليوم ليس نسخة طبق الأصل عما مارسته قوات الاحتلال ضد أبناء الشعب العراقي. وكأن تهمة الإرهاب، الموجهة ضد مقاومة الشعب الفلسطيني واللبناني، ليست هي ذاتها الموجهة ضد مقاومة الشعب العراقي الباسلة.
في وضعنا الحالي، أصبحت محاجة جوقة المتواطئين من الحكام والمثقفين المتصهينين أو الخانعين، مضيعة للجهد والوقت. وبات من الضروري التوجه إلى قوى الممانعة والمقاومة العربية والإسلامية في نهضتها الجديدة لنقول: لم يعد كافياً أن نكرّر بأنّ عدوّنا شرس وهمجيّ وأنه يستخدم سياسة فرِّق تسُدْ الاستعمارية، بينما نختار على أرض الواقع أن نفعل ما يريده منا، أي أن نقاتله فرادى. لم يعد كافياً أن تقاتل كل مقاومة على حدة، بل يجب أيضاً الانتباه إلى أن عدونا لن يتنازل بسهولة عن طموحاته في الأرض والموارد والهيمنة، وأن أملنا الوحيد في النصر يكمن في الرؤيا الاستراتيجية لفصائل المقاومة مجتمعةً في عدة بلدان، وفي آن واحد، وفي طموحنا في التحرر والحرية والكرامة. أن هذا المنظور لاجتماع الفصائل مطلب ملح تعيشه الجماهير بأشكال ومستويات مقاومتها المختلفة، ومنها التظاهرات الحاشدة التي ما كانت ستثابر على القيام بها لولا وصولها مرحلة متقدمة من الوعي الخلاق. وسيؤدي التلكؤ في تحقيق وحدة المقاومة، في البلد الواحد او البلدان المحتلة سوية، إلى الإحباط وإثارة اليأس وتخلف قيادات المقاومة عن جماهيرها.
الخنادق المتفرقة تقاتل عدواً واحداً، وهي مطالبة من جانب جماهيرها بأن تتصل، وأن تجد فيما بعد شكلا حضاريا لحل خلافاتها مهما كانت، استناداً إلى إرادة
الشعب.
* كاتبة عراقية