فيما تحاول إسرائيل جاهدة ترويع الفلسطينيين لإخضاعهم في غزة، بدأ العديد من المراقبين بالتساؤل عن سبب إحجام حزب الله عن تقديم المساعدة العسكرية لإخوته في السلاح، حماس. لكن مثل هذه التساؤلات لا تأخذ بعين الاعتبار القيود التي تتحكم بمجال عمل حزب الله، ولا الظروف التي ستدفع الحزب إلى تجاهل مثل هذه القيود. فالسؤال الذي يجب أن يُطرح ليس عما إذا كان حزب الله سيتحرك بقدر ما هو متى سيفعل

أمل سعد غريب *
في الوضع الحالي، ليس حزب الله في موقف تقديم المساعدة المباشرة لحماس عبر فتح جبهة جديدة مع إسرائيل. فأخيراً استعاد الحزب ومؤيّدوه عافيتهم من الآثار المدمرة للحرب التي شنتها إسرائيل عليهم في تموز/ يوليو 2006. وسوف تقابل إسرائيل حتماً أي هجوم يقوم به حزب الله على شمالها بقوة «غير متكافئة»، وهي لم تتوقف عن التهديد بذلك منذ بضعة أشهر. وإذا وُضع التدمير والخراب على نطاق واسع جانباً، فسيواجه حزب الله مجدداً ضغوطاً حادة لنزع سلاحه، وسيُحاك ضده ربما المزيد من المؤامرات المصنّعة خارجياً والمنفذة داخلياً، ما قد يؤدي فعلياً إلى نوع من النزاع الأهلي الذي وجدت الحركة نفسها في خضمّه في أيار/ مايو 2008.
لن يكون عمل مسلح يقوم به حزب الله تصرّفاً انتحارياً بالنسبة إلى الحركة وحسب، بل سيلحق الضرر أيضاً بحماس التي ستضعف جداً مكانتها كحركة مقاومة وطنية قادرة على الدفاع عن شعبها، كما ستُثار أسئلة عن سبب وجودها. بالإضافة إلى ذلك، بما أن حماس تمكنت حتى الآن من الثبات وحدها بوجه انقضاض إسرائيل عليها من دون أن يلحق أي ضرر مهم بهرميّتها التنظيمية أو بنيتها التحتية العسكرية، فلا يعتبر حزب الله أن أيّ تدخل من جانبه حاجة ملحة.
ثمة سببان يدفعان حزب الله إلى التدخل العملي في النزاع. أولاً إذا تُركت حماس تنزف حتى الموت في ساحة المعركة، إما بسبب القضاء على صفوفها القيادية أو في حال تلقّي بنيتها التحتية العسكرية ضربة موجعة تضعف بشدة أداءها وقيادتها العسكريين وتؤدي إلى احتمال انهيارها، من المرجح عندئذ أن يتدخل حزب الله. ثانياً إذا أجبرت المنظمة على القبول بوقف نار مشروط وفق ما يتضمنه الاقتراح الفرنسي ـــ المصري الحالي، الذي يلبي كل مطالب إسرائيل الأساسية فيما يضعف حماس عسكرياً وسياسياً، فسيشعر حزب الله بأنه مجبر على نجدتها.
بالنسبة إلى حزب الله، إن الحاجة إلى التحرك في مثل هذه الظروف ستفوق كل الأثمان المتوقعة المتأتية من هذا العمل ـــ وهو حساب يقوم على أساس مسؤولية حزب الله المعنوية تجاه الفلسطينيين، والمصير الاستراتيجي المشترك بين حركتَي المقاومة. وقد قال نصر الله في 16 تموز/ يوليو 2008: «[المقاومة] مشروع واحد، وحركة المقاومة حركة واحدة، ومسارها واحد ومصيرها وهدفها واحد وإن تعددت أحزابها وفصائلها وعقائدها وطوائفها ومذاهبها واتجاهاتها الفكرية السياسية... إن حركات المقاومة في هذه المنطقة، وتحديداً في لبنان وفلسطين، هي حركات متكاملة يكمل بعضها بعضاً ومتواصلة...»

نظرة حزب الله إلى النزاع في غزة

تستند هذه الضرورة المعنوية والاستراتيجية للتحرك أيضاً إلى فهم حزب الله للحرب الدائرة على أنها فصل واحد لا أكثر من حرب شاملة مفتوحة يشنها محور الولايات المتحدة ـــ إسرائيل ـــ العرب «المعتدلون» ضد جبهة الممانعة التي تشمل إيران وسوريا وحزب الله وحماس. وفق وجهة النظر هذه، إن الأحداث التي تتكشف هي، ببساطة، امتداد لحرب تموز/ يوليو، كما يثبت اعتراف إسرائيل بأن أحد دوافع هجومها المدمر اليوم هو ترميم قدرة الردع وصورته اللتين فقدتهما في تموز/ يوليو 2006. ما يقدّم دعماً إضافياً لوجهة النظر هذه هو الموقف الذي اتخذته الأنظمة العربية المعتدلة، والمطابق عملياً لذاك الذي اعتمدته في تموز/ يوليو 2006. في الواقع، لقد تحولت النظرة إلى الدور العربي من «السكوت» و«التواطؤ» في الخفاء مع إسرائيل في حرب تموز/ يوليو، إلى «تعاون» و«شراكة» علنيين مع الدولة الصهيونية في حربها على غزة. وقد أصبح الدعم العربي، ولا سيما دعم الحكومة المصرية، لحملات إسرائيل العسكرية واضحاً جداً إلى درجة أن بان كي مون نفسه (المعروف بميله إلى الولايات المتحدة وإسرائيل) انتقد الأنظمة العربية في 29 كانون الأول/ ديسمبر لأنها «لا تقوم بما يكفي» لمساعدة الفلسطينيين في غزة، فيما يستمر المسؤولون الإسرائيليون، ومعهم الصحافة، بإحراج حلفائهم العرب المعتدلين بشكل متعمّد من خلال التباهي بعلاقتهم معهم التي كُشف النقاب عنها أخيراً.
نظراً إلى مدى التعاون العربي مع إسرائيل في آخر مغامرة عسكرية [فاشلة] لها، ونظراً إلى ضراوة الأخيرة، يُعتبر فصل غزة الحالي لحظة خطيرة بشكل خاص في النزاع الإقليمي، لدرجة أنه لا يمثل حرباً ضد حماس وحدها بل ضد القضية الفلسطينية، أو، كما يصفه نصر الله، معركة «مصير فلسطين» (29 كانون الأول/ ديسمبر). وبما أن القضية الفلسطينية تتجسد بحماس وتحدّد الهوية السياسية لحلفائها الإقليميين، فالنزاع الحالي هو نزاع ترتفع فيه الرهانات الإيديولوجية والاستراتيجية لكل أعضاء جبهة المقاومة إلى حدها الأقصى. وقد اعترف نصر الله بذلك في الخطاب الذي ألقاه في 29 كانون الأول/ ديسمبر: «ما يجري في غزة لن تكون نتائجه على غزة وحدها أو على فلسطين وإنما على الأمة كلها، يجب أن نواصل العمل ... ولا نكتفي بنشاط هنا أو تظاهرة هناك... يجب أن نبذل كل جهد للدفاع عن أهلنا».

التنسيق والتعاون مع حماس

بالنسبة إلى حزب الله، حتماً كانت حرب إسرائيل الضارية على غزة متوقعة نظراً إلى خروق إسرائيل المتكررة لاتفاق وقف النار مع حماس على مرّ الأشهر العديدة المنصرمة، ورفض الأخيرة تجديده على الأقل قبل شهر من انقضاء أجله. فمن المُرجّح أن حزب الله كان يستعدّ لهذا الاحتمال إلى جانب حماس منذ بعض الوقت. وفي إشارة إلى مثل هذا التنسيق، استخدم نصر الله، في 15 كانون الأول/ ديسمبر، خطاباً متلفزاً لتعبئة الدعم الشعبي لاحتجاج «مفتوح» من أجل رفع الحصار عن غزة يُطلق في 19 كانون الأول/ ديسمبر، قبل الاعتداء الإسرائيلي ببضعة أيام. وليس من قبيل الصدفة أن يختار زعيم حزب الله توقيت هذا الإعلان بعد يوم واحد من إعلان رئيس المكتب السياسي في حماس، خالد مشعل، رسمياً في 14 كانون الأول/ ديسمبر، انتهاء العمل باتفاق وقف النار بين الحركة وإسرائيل.
أبعد من هذا التنسيق السياسي، لا بدّ من أن حزب الله قد ساعد حماس على الاستعداد لمثل هذه العملية الإسرائيلية عبر الأسلحة والتدريب والتخطيط العسكري المشترك أيضاً. وتبدو ثقة مسؤولي الحزب القوية في أداء حماس العسكري نابعة من معرفة وثيقة بقدرات المنظمة. يتبين هذا الاستنتاج من خلال تأكيد رئيس كتلة حزب الله البرلمانية، محمد رعد، الذي زعم أن «العدو سيفاجأ بمدى الصواريخ الموجودة في ترسانة المقاومة في غزة» (2 كانون الثاني/ يناير). ويدعم هذه الحجة اعتراف نصر الله، في آذار/ مارس 2002، بأن مسؤولي حزب الله الثلاثة، الذين اعتقلوا في الأردن فيما كانوا يحاولون تهريب أسلحة إلى الضفة الغربية، كانوا فعلياً ينتمون إلى الحزب، كما إعلانه في ذلك الوقت بأن تزويد الفلسطينيين بالأسلحة واجب... ومن العار أن يُعتبر مثل هذا العمل جريمة.
يبدو أسلوب حماس القتالي أنه يحمل دمغات التكتيكات العسكرية التي استخدمها حزب الله في خلال حرب تموز/ يوليو، مثل استخدامها غرفاً محصّنة تحت الأرض وشبكات أنفاق، كما اعتماد تكتيكات صاروخية مشابهة، ما يوحي بتدريب حزب الله المكثف لقوات حماس العسكرية. وقد اقترب نصر الله من الاعتراف بذلك عندما ادّعى بأن «المقاومة في غزة استفادت من هذه العبر [من حرب تموز/ يوليو] أكثر من الإسرائيليين» (31 كانون الأول/ ديسمبر). في ما يتجاوز مجرد تلقي التدريب العسكري، تبدو استراتيجية حماس العسكرية متطابقة مع «المدرسة القتالية الجديدة» التي أسسها قائد حزب الله العسكري المغتال، عماد مغنية (لقد أشيع أنه قام شخصياً بتدريب عدة مجموعات فلسطينية وتجهيزها على مر السنوات)، وهي تجمع ما بين العمليات العسكرية التقليدية وغير التقليدية التي تعتمدها العصابات، وتتصف بفعاليتها لا في تحرير الأرض المحتلة وحسب، بل في صدّ الهجوم عنها أيضاً.

استراتيجية حزب الله حيال مصر

لم ينسق حزب الله نشاطه حيال أزمة غزة مع حماس وحدها، بل مع إيران أيضاً. وتتمثل إحدى الإشارات إلى مثل هذا التنسيق بأن حملة إيران ضد إغلاق مصر معبر رفح أطلقت قبل تلك التي بدأها نصر الله، ما دفع بالقاهرة إلى استدعاء مبعوثها الدبلوماسي من طهران. في 12 كانون الأول/ ديسمبر، انتقد آية الله أحمد خاتمي، عضو مجلس خبراء القيادة والمقرب جداً من المرشد الأعلى في إيران، الإمام الخامنئي، الأنظمة العربية بلغة تذكّر بخطاب الخميني الثوري في ثمانينيات القرن المنصرم: «انسوا الصمت. إنهم يتعاونون مع إسرائيل». وإذ سمى خاتمي مصر باسمها على ضوء تعاونها مع إسرائيل في حصار غزة، سأل: «أين ذهب إسلامكم؟ أين ذهبت إنسانيّتكم؟». بلهجة مشابهة، أنكر نصر الله، في الخطاب الذي ألقاه في 28 كانون الأول/ ديسمبر، وجود «صمت» عربي، مشدداً على أنه «شراكة» عربية مع إسرائيل. ونصر الله أيضاً، مثله مثل خاتمي، سمّى مصر باسمها، محذّراً إياها من أنها ستكون «شركاء في الجريمة، شركاء في القتل، وشركاء في صنع المأساة الفلسطينية» إن لم تفتح المعبر. لهذه الغاية، دعا زعيم حزب الله «ملايين» المصريين إلى تحدّي قمع الحكومة والنزول إلى الشوارع من أجل التعبير عن غضبهم، كما دعا القوات المسلحة المصرية إلى ممارسة الضغوط على النظام من أجل فتح المعبر.
وفيما رفض كثيرون التوقف عند تهجّمه الكلامي القاسي على نظام مبارك باعتبار أنه ليس أكثر من تكتيك مضلّل أو تعويضي يهدف إلى تشتيت الانتباه عن عدم تحرك حزب الله أو التعويض عنه، يفوت القائلين بوجهة النظر هذه تقدير الطبيعة غير المسبوقة لهذا الهجوم، كما الاستراتيجية الأوسع التي تشكّل أسسه. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، لم يعتمد حزب الله مثل هذا الخطاب الملتهب ضد نظام عربي، ولم يسمّ نظاماً محدداً تهجم عليه. وحتى في خلال حرب تموز/ يوليو، حين بلغ التواطؤ العربي مع إسرائيل ذروته، لم يدعُ نصر الله الجماهير العربية لممارسة الضغوط على حكوماتها، ولا ساءت علاقات حزب الله مع تلك الأنظمة بعد الحرب. فمن الواضح أن الحزب لم يشأ، في تلك الفترة، أن يحرق جسوره مع الأنظمة العربية ولا أن يمدّها بالعدة اللازمة للتلويح بالفزاعة الشيعية وتأجيج التوترات السنية الشيعية. ولكن في غزة، لم يجد حزب الله أي مجال مماثل للدبلوماسية وضبط النفس. ففي الخطبة التي ألقاها نصر الله في 7 كانون الثاني/ يناير، حذّر من أن حزب الله، وعلى الرغم من أنه لم يخاصم الذين خانوه في حرب تموز/ يوليو، «سنخاصم ونعادي من يتواطأ على غزة وأهلها».
يشير التحوّل في سياسة حزب الله وتنسيقه مع إيران في هذه المسألة إلى استراتيجية مشتركة بينهما لفضح تواطؤ نظام مبارك مع إسرائيل والضغط عليه لرفع حصاره عن غزة. وتخدم هذه الأهداف أيضاً الغاية الأكبر المتمثلة بهزّ أسس التحالف المصري الإسرائيلي الذي، بدوره، سيساهم في إضعاف مكانة إسرائيل الإقليمية. وتُعتبر استراتيجية من هذا النوع ضرورية نظراً إلى «الاحتضان الشعبي» لإسرائيل، كما قال أحد الصحافيين الإسرائيليين (صحيفة هآرتز، عدد 9 كانون الثاني/ يناير). على عكس حرب تموز/ يوليو، حين حصرت مصر وأنظمة معتدلة أخرى دورها التعاوني بإلقاء اللوم على حزب الله في الاعتداء الإسرائيلي، لم تتكبد مصر، هذه المرة، حتى عناء ادّعاء الحياد، فيما تحاول في الخفاء الإفادة من حرب إسرائيل على حماس. ولا تستطيع مصر أن تلعب حتى دور الوسيط المتآمر في هذه الحرب لأنها، في الواقع، جزء من النزاع. فعلم مصر المسبق بالعملية الإسرائيلية ـــ ويقول البعض حتى طلبها من إسرائيل إطلاق مثل هذه العملية ـــ أصبح معروفاً بشكل شائع، تماماً كما الحسّ الكاذب بالأمان الذي هدهدت به حماس قبل الهجوم الإسرائيلي.
ولكن الإشارة الأشد وضوحاً إلى أهداف مصر المشتركة مع إسرائيل من الحرب تكمن في حصارها على غزة ورفضها المطلق رفعه. ويعتبر حزب الله وحلفاؤه فتح معبر رفح مفتاحاً لنتيجة النزاع، كما شرح نصر الله: «الموقف المصري هو حجر الزاوية لما يجري في غزة ولا أحد يطلب من مصر لا أن تفتح جبهة ولا أن تذهب إلى القتال، فقط أن تفتح المعبر ليصل الغذاء والدواء والماء وحتى السلاح لأهلنا في غزة» (28 كانون الأول/ ديسمبر). وقد أثبتت تجارب حزب الله في زمن الحرب أهمية هذا الأمر. ففتح سوريا معبرها الحدودي مع لبنان، الذي أتاح نقل الأسلحة والبضائع واللاجئين، كان محورياً في انتصار حزب الله العسكري سنة 2006. وفي حالة رفح، يعتبر فتح المعبر الحدودي ضرورياً أكثر بعدُ بالنسبة إلى الفلسطينيين، إذ إنه ليس مجرد خط تموين لحماس فقط، بل حبل الخلاص بالنسبة إلى أهل غزة المحاصرين من كل الجهات.
فيما فشلت استراتيجية نصر الله في إقناع مبارك بفتح المعبر، ساهمت في زعزعة سمعته داخلياً وإقليمياً، وقلصت دور نظامه إلى دور دفاعي محض، إذ ينهمك في صياغة ذرائع مضادة لاتهامات زعيم حزب الله ويحثّ حلفاءه المعتدلين على الدفاع عنه. إضافة إلى ذلك، لكي يغطي النظام المصري إفلاسه المعنوي، صاغ مبادرة لوقف النار على أمل عقيم بأن يستعيد دوره الإقليمي المفقود. ولكن بالنسبة إلى الفلسطينيين (من دون ذكر الغالبية العظمى من المصريين والعرب)، لا يمكن لأي عمل أن يعوّض عن فتح معبر رفح الحدودي. ثم إن المبادرة ذاتها تخدم مصالح إسرائيل وأهدافها العسكرية، وأيضاً مصالح محمود عباس وأهدافه، إذ إنها تسعى فقط إلى إعادة إحياء اتفاق 2005 بين فتح وإسرائيل الذي دعا إلى مراقبة الحدود من قبل رجال أمن تابعين لفتح ومراقبين أوروبيين. ومع أن حزب الله لم يعلق بعد على المبادرة، أعلنت حماس «تحفظات كبيرة» عليها، فيما رفضتها إيران بكليّتها. وبالتالي يمكن الاعتقاد بأن استراتيجية حزب الله وإيران، التي هي على وشك أن تتكشف، ستكون التأكّد من عدم ممارسة ضغوط على حماس من أجل قبول الاقتراح المصري الذي سيضعفها سياسياً وعسكرياً. فسيدعم حزب الله وحلفاؤه بقوة رفض حماس أن تصبح المعادل الإسلامي لفتح.

جهوزيّة حزب الله للتدخّل عسكريّاً

فيما افترض بعض المعلقين أن شرخاً ما قد برز داخل حزب الله حول الظروف التي يجب عليه في ظلها مساعدة حماس عسكرياً، تبدو هذه الادعاءات غير محتملة. فكما ذُكر سابقاً، لا يمكن أن يكون هجوم إسرائيل على غزة قد فاجأ حزب الله، وبالتالي من غير المرجح بتاتاً أن تكون قيادة الحزب قد أُخذت على حين غرة فوجدت نفسها عرضة لضغوط داخلية للقيام بتحرك فوري. إن الدفاع عن حماس وعن الفلسطينيين ضد إسرائيل، وبما أنه أحد أعمدة إيديولوجية حزب الله ورؤيته الاستراتيجية، يشكل حكماً مسألة تتمتع بإجماع الحزب.
بالإضافة إلى ذلك، لم تلتزم قيادة الحزب علناً بسياسة الامتناع عن التحرك، كما لا يُرجَّح أن تكون قد فعلت ذلك بعيداً عن الأضواء كما زعم بعض المسؤولين اللبنانيين في معسكر 14 آذار المنافس لها. فعندما أعلن زعيم الأكثرية النيابية، سعد الحريري، في وقت سابق من هذا الشهر، أنه تلقى تطمينات من سعيد جليلي، الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني، في خلال زيارته إلى بيروت، بأن حزب الله لن يقوم برد فعل على الهجوم الإسرائيلي على غزة، لامه نصر الله على منح «تطمينات مجانية» لإسرائيل. وفي الواقع، حين اتصلت كاتبة المقالة بمصدر موثوق في السفارة الإيرانية في لبنان، أُعلمت بأن جليلي لم يعطِ أي تطمينات للحريري.
وبالتالي، إن سبب الغموض البنّاء الذي يعتمده حزب الله، إذ لا يؤكد نيته الاشتراك في النزاع ولا ينكرها، هو سبب واضح: على الرغم من أن مقاومته بقيت حتى الآن على الخطوط الجانبية للنزاع، إلا أنه من غير المرجح بتاتاً أن تستمر على موقفها هذا إذا كانت حماس على حافة الانهيار. فاستناداً إلى مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة إلى حزب الله ودوره الاستراتيجي في مواجهة المشروع الأميركي ـــ الإسرائيلي، لا يمكنه السماح بأن تُسحَق حماس عسكرياً على أرض المعركة، أو سياسياً من خلال اتفاق وقف نار مذلّ سيضعف الحزب. وضمن هذا السياق يجب أن نقرأ تعهدات حزب الله الأخيرة بـ«عدم التخلي أبداً» عن القضية الفلسطينية. في إشارة أخرى إلى جهوزية حركة المقاومة لدعم حماس عسكرياً، وجّه نصر الله طلباً إلى أتباعه، لم يُعطَ الأهمية الكافية لدى نقله، فيما كان يلقي أحد خطابات عاشوراء الشهر المنصرم: «آمل منكم أيها... المحتشدون في هذا المكان... أن تبقوا دائماً على جهوزية لتلبية أيّ نداء وأيّ موقف وأيّ قرار» (29 كانون الأول/ ديسمبر). فيما يمكن أن يُفسّر ذلك بأنه طُلب من أتباع حزب الله بأن يدعموا حقه في الدفاع عن نفسه إذا هاجمت إسرائيل لبنان، يمكن الرد على هذا التفسير بأن حزب الله لا يحتاج إلى أن يطلب من المخلصين له، الذين قاموا بأكثر من إثبات ولائهم لحركة المقاومة، أن يدعموا حقه في الدفاع عن الذات. ثم إن الحزب لا يتخذ مواقف أو قرارات تتعلق بالدفاع عن الذات الذي لا يُعتبر فقط أنه حق غير قابل للتفاوض عليه بل واجب إلزامي عليه.

سيناريوهات التدخل

على الرغم من أن التدخل المسلح لحزب الله سيثير سخط إسرائيل، لن يكون حشد الدعم الشعبي [الشيعي] لمثل هذه الاستراتيجية صعباً جداً إذا صوّره حزب الله بأنه دفاع مشروع عن الذات، لا فتح جبهة جديدة. وقد قامت إسرائيل باستفزازات أكثر من كافية تستطيع حركة المقاومة أن تفيد منها، وبالتالي أن تستخدمها لإشعال حرب مع الدولة الصهيونية. فعدا عن استمرار احتلالها لمزارع شبعا وقرية الغجر، اللتين عجزت الحكومة اللبنانية عن تحريرهما بالوسائل الدبلوماسية حتى الآن، تختطف بشكل روتيني مدنيين لبنانيين من الجانب اللبناني من الخط الأزرق، وقد جرت آخر حادثة من هذا النوع في كانون الأول/ ديسمبر 2008.
وبشكل أكثر تواتراً، تخرق الطائرات الإسرائيلية الأجواء اللبنانية يومياً، منتهكة بذلك قرار الأمم المتحدة رقم 1701. وقد أصدر حزب الله بياناً في تموز/ يوليو 2008 شجب فيه الخروق، واصفاً إياها بأنها «استفزازية وغير مقبولة ومدانة»، وحضّ الحكومة اللبنانية وأجهزة الأمم المتحدة المعنية على اتخاذ الإجراءات الضرورية لوضع حد لهذه الانتهاكات. في 31 تموز/ يوليو 2008، أوردت صحيفة الأخبار اللبنانية، التي تُعدّ مقربة من الحركة، أن حزب الله كان يخطط لاتخاذ «إجراءات عملية» رداً على الانتهاكات. وفي الفترة ذاتها تقريباً، ظهر العديد من التقارير في وسائل إعلام عربية عن خطة نشر بطاريات صواريخ مضادة للطائرات في الجبال اللبنانية من أجل قصف الطائرات الإسرائيلية. ولكن، بغضّ النظر عن صحة مثل هذه التقارير، فإن حزب الله غير مضطرّ حتى إلى إنزال نفّاثات للاحتجاج على تحليق الطائرات، بل يمكنه الاكتفاء بإطلاق صواريخ مضادة للطائرات تقع «بشكل عرضي» على المستوطنات الشمالية، كما فعل في الماضي.
والرد على اغتيال إسرائيل مغنية سيمكّن حزب الله أيضاً من إشعال حرب مع إسرائيل. فالحزب سيرد على الاغتيال، وهذا أمر شبه مؤكد نظراً إلى أهميته السياسية والعسكرية بالنسبة إلى الحزب، وبالعودة إلى إعلان نصر الله عن فتح «حرب مفتوحة» مع إسرائيل في 14 شباط/ فبراير، وإلى اليمين الذي أقسمه في 22 شباط/ فبراير بأن يثأر لموته: «يا حاج عماد، أقسم بالله أن دمك لن يذهب هدرا»ً. ولعلّ حزب الله احتفظ بحق الرد إلى مثل هذا الوقت، حين سيخدم هدفاً استراتيجياً أوسع بكثير من مجرد ضربة مقابل ضربة. وأي هدف أفضل من إنقاذ القضية الفلسطينية من انهيار محتمل؟
مهما كان السيناريو الذي سيتكشّف، سيبقى على حزب الله أن يشرح توقيت أي إجراء دفاعي يتخذه. وستكون الحركة مبرَّرة تماماً في تقديم هجومها على أنه هجوم وقائي، فتدافع عنه بمشروعية، قائلة إنها ستكون التالية على خط النار بالنسبة إلى إسرائيل شجعة، نجحت في إنهاء حماس سياسياً أو عسكرياً. كما حذر نصر الله في 28 كانون الأول/ ديسمبر ومجدداً في 7 كانون الثاني/ يناير، إن احتمال هجوم إسرائيلي وشيك على لبنان يبقى احتمالاً جدياً جداً، وحزب الله أكثر من مستعد لمواجهته. وفعلياً، لم تبدأ تهديدات إسرائيل للبنان مع الحرب على غزة، بل بقيت ميزة ثابتة في خطابها الرسمي منذ أكثر من سنة حتى الآن.

جهوزية حزب الله للحرب

بدأ حزب الله بالرد على هذه التهديدات لا بتهديدات مضادة وحسب، بل بخطاب جديد يشدد على إزالة إسرائيل كدولة صهيونية من خلال «تدمير جيشها». إن الربط بين بقاء إسرائيل كدولة وقوة الردع التي تتمتع بها ليس بالجديد بالنسبة إلى حزب الله، ولكن فكرة تدمير «بقية الردع» (نصر الله، في 22 شباط 2008) مرة وإلى الأبد هي كذلك. ففي الذكرى الأولى لحرب تموز/ يوليو، التي أحياها حزب الله في 14 آب/ أغسطس 2007، أذهل نصر الله مؤيديه وإسرائيل على حد سواء عندما «وعد» بـ«مفاجأة كبيرة» في أي حرب مقبلة مع إسرائيل «ستغيّر وجه المنطقة»، وستمكّن حزب الله من تسجيل «نصر حاسم وواضح لا لبس فيه». فلن يقضي حزب الله فقط على ما بقي لإسرائيل من قدرة ردع، بل سيفعل ذلك بسرعة»: أيّ حرب جديدة ستكون حرباً سريعة وسيكون النصر حاسماً» (نصر الله، 24 آب/ أغسطس 2008).
فيما خمّن كثيرون أن تهديدات نصر الله توحي بأن حزب الله قد اكتسب أسلحة متطورة مثل الصواريخ المضادة للطائرات، ثمة استنتاج منطقي أيضاً (ولا يلغي السابق) بأنه ربما طوّر طريقة أو استراتيجية جديدة للعمليات الحربية تشمل عدداً من المقاتلين أكبر بكثير من الذي استخدم في الماضي. كما أعلن نصر الله في 14 شباط/ فبراير 2008: «في أيّ حرب مقبلة، لن ينتظركم عماد مغنية واحد ولا عدّة آلاف من المقاتلين، لقد ترك لكم عماد مغنية خلفه عشرات الآلاف من المقاتلين المدرّبين المجهّزين الحاضرين للشهادة». سيُظهر هؤلاء المقاتلون أسلوباً قتالياً غير مسبوق يفترض أن إسرائيل لم تره منذ تأسيسها (24 آب/ أغسطس 2008).
بغض النظر عن جهوزية حزب الله للحرب وقدرته على تدمير الردع العسكري الإسرائيلي، المؤكد بالنسبة إلى الحزب والعديد من مؤيديها وحلفائها أن تدمير النظام الصهيوني في إسرائيل لم يعد محصوراً بالمجال الإيديولوجي، بل أصبح مصلحة استراتيجية أيضاً. فالأمن الإقليمي يتطلب إبطال التهديد الدائم الذي تشكله إسرائيل لجيرانها مرة وإلى الأبد. وفيما قد يبدو مثل هذا المنطق عودة إلى الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، يملك التفكير الجديد قواسم مشتركة مع المفهوم الأميركي «تغيير النظام» واقتراحات حل الدولة الواحدة أكثر مما يملكها مع «ارموا اليهود في البحر». وإذا حققت الحرب على غزة أيّ أمر، فهو أنها نجحت في نقش هذا المنطق في الوعي العربي والإسلامي.
* باحثة لبنانيّة
(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)