سنان أنطون *
1


جرّافات التاريخ السائد الذي يصنعه الرجل الأبيض منذ قرون تزمجر وتندفع، مرة أخرى، إلى «الأمام». حوافر التكنولوجيا والتقدّم تحمل آخر ما ابتكره من أدوات القتل والمحق لاقتلاع الشعوب، الأقل سمرة في الغالب، التي يعرقل وجودها أساطيره العنصرية ويذكّر بتاريخ جرائمه ويشوّش خرائطه. لكن هناك دائماً من يقاوم ومن يرفض أن يخرج من التاريخ بصمت ليتحول إلى عيّنة في متحف أو إلى موضوع مثير لبحث أنثروبولوجي أو ذكرى قد تثير شيئاً من الخجل أو العار بعد عقود، هذا إن لم يغطّه تراب النسيان كليّاً. لكن، هناك من يبقى ويرفض أن يموت بصمت أو أن يصمت أو يصفق لقاتله.

2


في غزّة، كما في أرجاء فلسطين والشتات، هناك أولئك الذين حاولت إسرائيل إخراجهم وإخراج أهليهم من التاريخ مرة أو أكثر من قبل. أودعتهم المخيّمات التي تكاد تكون قبوراً مؤقتة تؤجّل وجودهم بانتظار إلغائه أو محوه كليّاً في أقرب فرصة. لكنهم، بالرغم من الاقتلاع والتجويع والقتل ونسيان العالم وعنصريته، وبالرغم من وجودهم في سجن تعلو جدرانه منذ ستين عاماً، يولدون من جديد. يضربون جذورهم في الأرض ويحفرون في عطشهم بئراً ليشربوا كصبّار خرافي. والصبّار يتذكر أرضه البعيدة ــــ القريبة، وسيظل يحرس اسمها وظلاله. الصبّار يؤرّق الذاكرة ويقلق نوم الغزاة. وللصبّار دمع قديم وشوكٌ خرافي لمن يريد اقتلاعه.

3


دموعنا لا تكفي. كل دموع الأرض لا تكفي لتروي عطش طفل واحد في غزة أو لتروي قصته. كل الصراخ والهتافات لا تكفي كي يستيقظ من نومه الأبدي. لا بد من غضب خرافي وذاكرة شرسة تحفظ الوصايا الأخيرة وتدافع عن نفسها بالحق.

4


أين تذهب أرواح القتلى؟ أين تذهب أرواح الأطفال الذين قصفتهم وستقصفهم إسرائيل إلى ليل لا ينتهي؟ لا جنّة هناك. والجحيم كان هنا. تراها تنتظر في مكان ما في العالم السفلي؟ ربما تتحول إلى أشباح ستظل تطارد قاتلها كلعنة إلى أن يعترف ويعتذر.

5


تطالب التظاهرات بإغلاق السفارات الإسرائيلية في بعض العواصم العربية وبطرد السفراء. نعم، لا حاجة لسفارات، فالحكام العرب خير من يمثل إسرائيل ويحمي مصالحها. وحتى أولئك الذين لم يوقّعوا بعد يتلهفون ويتغازلون سرّاً بانتظار الوصل. قال مظفر النواب في إحدى قصائده إن «بوصلة لا تشير إلى القدس مشبوهة/ حطّموها على قحف أصحابها/ اعتمدوا القلب...»
بوصلة لا تشير إلى فلسطين مشبوهة. اعتمدوا غزّة!

6


لن يعود الموتى. لكن الفلسطيني لن يخرج من التاريخ مهما ازدادات وحشية الجرّافة الصهيونية وسُعار آلتها العسكرية. سيظل الفلسطيني لأنه «يحب الحياة إذا استطاع إليها سبيلاً». له، كما لغيره، حق الوجود في التاريخ وعلى الأرض وله الحق في أن يكون. إذا كانت الصهيونية تعوّل على العصر الأميركي فإنه لن يستمرّ إلى الأبد، وهي بالرغم من كل جبروتها بلا أفق غير الانتحار، لأن كينونتها تشترط إلغاء الآخر ومحوه. لن يعود القتلى، لكن الشوك والصبر يرسمان أفقاً تولد فيه فلسطين جديدة ستغسل نفسها من الدم وتنفض الركام و... تكون.
* كاتب عراقي