strong>أحمد بهاء الدين شعبان *ولا فى قلبي ولا عينيّه إلا فلسطين
وأنا العطشان ماليش ميّه إلا فلسطين
ولا تشيل أرض رجليّه وتنقل خطوتي الجايّه
إلا فلسطين، إلا فلسطين (فؤاد حداد)
تدور مصر الآن في أتون معركة حامية الوطيس، موازية للحرب الدامية التي دارت رحاها، وما زالت ــ وإن بطرق أخرى ــ على أرض غزة الصامدة. وهذه المعركة ترتبط عضوياً بوقائع ما جرى ويجري في القطاع: معركة بشأن موقف مصر والنظام المصري من هذه الحرب، وبشأن انحيازاتهما الرئيسة فيها. ولم يسبق قطّ أن بدت مصر، وعلى هذا القدر الكبير، منقسمة على نفسها في قضية مثل انقسامها في هذه القضية، ولا دارت فيها معركة كهذه المعركة.
فلأول مرة، يظهر بوضوح قاطع، أنّ مصر لم تعد موحّدة، وتحدّدت التخوم بين «المصرين»: «مصر العِشّة» (أو الشعب)، و«مصر القصر» (أو الطبقة الحاكمة)، وذلك في قضية حاسمة لا تقع في باب الانقسام الطبقي والتمايز الاجتماعي. وإن بدت ملامح انحيازات المعسكرين واضحة وقسماتهما محددة: فمصر «العِشّة» مع فلسطين، ومصر «القصر» أدارت لها الظهر!
فمصر الشعب هبّت منذ اليوم الأول للعدوان تتظاهر وتُضرب وتعتصم، وتجمع من قوتها الضئيلة، مساعدات للأشقاء المُحاصرين في غزة، وتصطدم بمئات الآلاف من جنود الأمن المركزي، وقوات «مكافحة الشغب»، وفرق البلطجية و«المخبرين» الذين حوّلوا مصر، على امتداد العاصمة وكل المحافظات، إلى ساحة حرب مفتوحة، حاصرت فيها قوات الأمن مئات الآلاف من أبناء الشعب المصري، الذين اهتزوا للعدوان، وخرجوا يتظاهرون في الميادين وفي الشوارع والجامعات والمساجد، ينحازون لفلسطين ويضغطون من أجل وقف العدوان، ومنع إيصال البترول والغاز الطبيعي للعدو الصهيوني، ويطالبون السلطة بإلغاء كل مظاهر «التطبيع»، ويهتفون: «أول مطلب يا جماهير... غلق سفارة (إسرائيل) وطرد سفير!»، وينددون بالعدوان والتواطؤ الرسمي على كل المستويات.
أما الموقف الرسمي المصري، المتناثر على ألسنة المسؤولين المصريين، بدءاً بالرئيس حسني مبارك، ووزير خارجيته أحمد أبو الغيط، وحتى جيش الإعلاميين الحكوميين ومن لفّ لفهم، فقد عبّرت عنه القنوات التلفزيونية الرسمية، وأقلام كتّاب الصحف الحكومية الصفراء، كصحيفة «روز اليوسف» ومجلتها التي كانت (ذات يوم) رمزاً للاستنارة والدفاع عن الحق والانتصار للحرية، قبل أن تتحول بمئة وثمانين درجة، وتنقلب على تاريخها ومواقفها!
الإعلامية والكاتبة لميس الحديدي، طرحت، وتحت عنوان دال «محاولات التقزيم»، (جريدة «المصري اليوم»)، ما درجت الترسانة الإعلامية الحكومية على اختلاقه ونشره وإذاعته، التي اعتبرت أن كل المطالبات، الداخلية والخارجية، بموقف مصري قوي في مواجهة العدوان، يليق باسمها وتاريخها، ويدافع عن أمنها ومصالحها، هي حركة وليدة مخطط إيراني ــ سوري، تشارك فيه قطر بجهد وافر عبر فضائية «الجزيرة» التي تقود حملات التشويه والتحريض ضد مصر! وفي مواجهة هذه المطالب، فعلى مصر، تقول الكاتبة، ألا تخجل من الرد بقوة وجرأة:
ــ نعم، نحن لا نريد لأشقائنا الفلسطينيين، أن يقيموا بسلاحهم ومخيماتهم في سيناء.
ـ نعم، المعبر يحتاج إلى موافقة إسرائيلية، فى فتحه وإغلاقه، هذه هي الاتفاقية (التي لم توقّعها مصر!).
ــ نعم، نحن لا نقبل الاعتداء على الفلسطينيين، ولكن أيضاً لا نقبل الاعتداء على مصر.
ــ نعم، نحن لا نريد دولة «حمساوية» على حدودنا.
يحتوي هذا البيان ــ المانيفستو، الخطوط (الدفاعية) العريضة التي لجأ إليها النظام لمواجهة الضغوط الشديدة التي وجد نفسه في مواجهتها منذ اليوم الأول للعدوان، بسبب واقعة إعلان وزيرة خارجية العدو الصهيوني، تسيبى ليفني، الحرب على شعب فلسطين من على الأرض المصرية، ثم ما تلاها من مواقف وتصريحات!
وبهدف عزل الشعب المصري عن التأثر بما يجرى في غزة، اعتمدت هذه الخطة على الربط التعسفي بين كل من مصر والنظام، وبحيث يجري وصف ما يُوجّه من انتقادات إلى الموقف الرسمي للنظام الحاكم في مصر، باعتباره حرباً على مصر، الدولة والشعب، وتحريضا عليهما!
ولجأت السلطة، في سبيل إقناع المواطنين بهذه الفكرة، إلى أساليب مبتكرة، منها استخدام شخصيات شهيرة ومحبوبة، كلاعبي كرة القدم، ونجوم الفن مثل عادل إمام، لترديد المقولات نفسها، فضلاً عن مئات البرامج الإذاعية والتلفزيونية، وآلاف المقالات التي تختلق مزاعم لا أصل لها، كرغبة الفلسطينيين في الاستيلاء على سيناء المصرية، والتوطن فيها، تلاقياً مع الإرادة الإسرائيلية المعلنة بهذا الشأن، دون أدنى اهتمام بتقديم دليل واحد يثبت أن أي فلسطيني طالب ذات يوم باستبدال أرضه بسيناء المصرية! كما استغلت السلطة حادثاً ملتبساً أدى إلى مقتل ضابط مصري فى اشتباكات على الحدود مع فلسطين، لتسعير نيران الكراهية ضد العرب والفلسطينيين، وسيّرت تظاهرات تطالب بالثأر من قاتليه (حماس)!
لكن «الحجة» الأخطر لتبرير الموقف الرسمي المصري من العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، هي حجة أن العرب والإيرانيين يريدون جرّ مصر إلى الحرب نيابةً عنهم! ومن أمثلة الضرب على هذا الوتر الحسّاس، الاستطلاع الموجّه الذي أجرته جريدة «نهضة مصر»، (المملوكة من الإعلامي المقرب من السلطة، عمرو أديب)، يوم 9 كانون الثاني / يناير الماضي، وسؤاله الأساس الموجّه إلى المواطن المصري البسيط، الذي تطحنه الأزمات من كل جانب: «هل توافقون على دخول مصر (في حرب) نيابةً عن العرب؟»، ولم تقدم الصحيفة بالمثل، دليلاً واحداً على أن أياً من العرب أو الإيرانيين قد طالب بهذا المطلب... والإجابة طبعاً معروفة سلفاً.
وهذا السلوك من النظام المصري لم يكن مستغرباً؛ فهو امتداد لموقف مدرسة الرئيس السادات السياسية، التي صكّها الرئيس الراحل، واستخدمها هو ومؤيدوه في مواجهة معارضيه ومنتقديه بعد إبرامه سلامه المنفرد مع الدولة العبرية. وتنطلق هذه «المدرسة»، من أن «هناك انفصالاً تاماً بين المصلحة المصرية والمصالح العربية، وأن العرب ـــ بالمطلق ـــ والفلسطينيين، يسعون دوماً إلى الإضرار بالمصلحة المصرية و«توريط» مصر في سياسات وقرارات تحقق مصالحهم هم، كما يقول د. ضياء رشوان.
وكان الجدل بشأن الحصار القاتل الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني تحت القصف الإسرائيلي الوحشي، وما تسبّب به من دمار، وما ترتب عليه من موت وخراب، وما أدى إليه من سقوط آلاف الشهداء والجرحى، والقيود الصارمة التي تضعها السلطة المصرية على فتح معبر رفح، رغم النداءات الفلسطينية والعربية، والمطالبات المصرية الشعبية بفتح المعبر أمام قوافل الإغاثة والدعم الطبي، ولعلاج مصابي العدوان، قد مثّل حالة من «الإزعاج»، أصبح من المتعذر على النظام تبريرها.
لذا، فقد تذرع برفض فتح المعبر، «حتى لا يسمح للفلسطينيين بمغادرة أرضهم والزحف إلى سيناء، وهو ما يحقق مرامي إسرائيلية غير خافية!»، ثم عاد النظام، بعدما انكشفت هذه الحجة أمام مظاهر إصرار الفلسطينيين على التشبث بأرضهم ووطنهم، إلى ترديد حجة أخرى: إن فتح معبر رفح تحكمه اتفاقية دولية تنظم هذه المسألة، وهو أمر لا تملك مصر عليه تأثيراً.
وعشية الاجتياح، ردّ د. حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية، على هذه المزاعم بشأن المعبر: «ولأن معبر رفح يقع بالكامل داخل حدود الدولة المصرية، يفترض أن تكون سيادة مصر عليه كاملة ومطلقة، وبالتالي يصبح في سلطتها وحدها وليس في سلطة أحد غيرها أن تسمح أو لا تسمح بفتحه، دونما تدخل من أحد أياً كان. ولا يتعين أن يكون عليها أي قيد سوى كل ما له صلة بالأمن الوطني. ومعنى ذلك أن باستطاعة مصر وحدها، وبقرار منفرد، تخفيف العبء والمعاناة الواقعَين على عاتق الفلسطينيين، لأن القانون الإنساني فوق كل اعتبار. ولأنني من الذين يعتقدون بحزم أن قضية فلسطين مصرية ومصيرية، فمصلحة مصر الوطنية تقضي بفتح معبر رفح فوراً. أما استمرار الإغلاق فليس له بالنسبة إلي سوى معنى واحد: هو أن سياسة مصر (الرسمية) الراهنة، لم تعد فقط غير أخلاقية، ولكنها كفت أن تكون وطنية أيضاً».
لكن القضية في الحقيقة لم تكن في هذا المبرر أو ذاك، وإنما كانت في ما ذكرته لميس الحديدي، وطالبت السلطة بإعلانه بوضوح: «نعم نحن لا نريد دولة حمساوية على حدودنا». فالنظام يرى أن أي انتصار للشعب الفلسطيني في غزة هو انتصار لـ«حماس»، أي لجماعة الإخوان المسلمين التي يخوض معركة تكسير عظام ضدها منذ سنوات. وهو في سبيل مواجهة «هواجسه» تجاه المعارضة السياسية والاجتماعية المتنامية لحكمه، ولـ«خطر» جماعة الإخوان، لا بديل أمامه سوى الاختيار، حتى لو كان لهذا الاختيار طعم العلقم، وخاصةً أن موعد استحقاقات مسألة «توريث» السلطة وحسمها على الأبواب، والموقف الأميركي ـــ الصهيوني الراضي، حاسم في هذا الشأن.
روبرت فيسك، الكاتب الصحافي البريطاني، الوثيق الصلة بمصر والمنطقة، كتب يُحلّل الحالة، فوضع يده على قلب الحقيقة: «إن عجز (مصر) عن مواجهة المعاناة في قطاع غزة يرمز إلى ضعف نظامها السياسي. اليوم، وبعد ثلاثة عقود من حكم الرئيس مبارك، فإن المصريين والكويتيين والأردنيين... يمكنهم الصراخ في شوارع عواصمهم، ولكن بعد ذلك سيجري إسكاتهم بواسطة الآلاف من رجال الشرطة السرية والميليشيات الحكومية التي تخدم الأمراء والملوك والحكام كبار السن في العالم العربي!
إنّ مصر اليوم أصبحت أرضاً، الوظيفة الأولى للأمن فيها حماية النظام. الدولة العطنة في مصر ضعيفة للغاية، والاعتراف بأن مصر لا تستطيع فتح الحدود السياسية دون الحصول على إذن من واشنطن، يقول لك كل ما تريد أن تعرفه عن عجز الحكام في الشرق الأوسط».
* كاتب مصري وأحد مؤسسي حركة «كفاية»