علي شهاب *لطالما اشتهر البريطانيون بتكتياتهم السياسية (والعسكرية والأمنية) «الباردة» لدى تعاملهم مع شعوب البلاد التي استعمروها عبر التاريخ. هذا التكتيك مثّل خلال القرن الماضي علامة فارقة تمايزت من خلالها لندن عن السياسة الأميركية التي تعتمد مبدأ القوة والمواجهة، عموماً، سبيلاً لحل «الأزمات».
ولئن كانت الرؤية البريطانية الاستراتيجية لا تختلف، في الأصل، عن نظيرتها الأميركية من حيث الأهداف، غير أن الاختلاف في الأسلوب أعطى البريطانيين موقعاً متقدماً، نسبياً، في موقف «الآخرين» منها بعكس الأميركيين الذين وضعوا أنفسهم مراراً في موقع المعادي علناً لمصالح الشعوب.
وأخيراً، قررت لندن إجراء حوار مع «الجناح السياسي» لحزب الله. وهو بالمناسبة الحزب نفسه الذي اتهمته القوات البريطانية بالمسؤولية عن مقتل جنودها في جنوب العراق خلال السنوات الماضية، فما هو المتغير في المعادلة السياسية الدولية الذي دفع بريطانيا إلى مثل هذه الخطوة؟ وما هي أهداف «الحوار» المنشود؟ وماذا إن فشل؟
بدأت الولايات المتحدة الأميركية في فهم الاختلاف بين الجهاديتين الشيعية والسنية عقب غزو العراق عام 2003، حين خَبِر جنودها الاختلاف في أسلوب المواجهة بين الطرفين. غير أن بريطانيا لمست فعلياً هذا الاختلاف في عشرينيات القرن الماضي؛ أثناء وجودها في العراق. اليوم، انتقلت الجهادية الشيعية إلى مرحلة متطورة عما كانت عليه قبل مئة عام، ما يُعتبر تحوّلاً تجد دوائر صنع القرار البريطانية من الضروري التعامل معه بـ«روية».
بدأت المرحلة الجديدة مع إعلان لندن قرارها خفض عديد قواتها في العراق (جنوبه تحديداً) أواخر شهر شباط عام 2006 نظراً لـ«حقائق ميدانية تسيطر على جنوب العراق» منذ الغزو الأميركي لهذا البلد؛ حيث رأى مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية آنذاك أن الانسحاب البريطاني يُعدّ «هزيمة» ذلك أن «انتصارات الشيعة في العملية السياسية أفشلت التكتيكات البريطانية».
ولفهم حجم التراجع البريطاني (ومن خلفه الأميركي) في هذه النقطة من العالم، يكفي الإشارة إلى أن جنوب العراق يؤمن 90 في المئة من مجمل الدخل القومي للعراق، وما نسبته 70 في المئة من الصادرات النفطية.
قرار الانسحاب نفسه أدى إلى «هيمنة الشيعة وتوسع النفوذ الإيراني» في العراق، بحسب دراسة أميركية.
يومها، أجمعت مراكز الدراسات الأميركية، وفي طليعتها «بروكينغز» على وصف عملية الانسحاب البريطانية بـ«المجازفة». لكن كان للبريطانيين ما يبرر موقفهم: انفجرت أول عبوة خارقة للدروع بدورية للاحتلال الأميركي في شهر آب من عام الغزو 2003. يومذاك، لم يدرك الأميركيون حقيقة ما يواجهونه. استمر الجيش الأميركي في الإيحاء بأنه يواجه عدواً غامضاً، حتى تشرين الأول 2005، عندما أعلن السفير البريطاني في العراق وليام باتي أن إيران تزوّد المقاومة العراقية بـ«تكنولوجيا مميتة» ضد القوات البريطانية في جنوب البلاد. ثم دعم رئيس الوزراء آنذاك طوني بلير هذه الاتهامات بالقول إن طبيعة العبوات تقود إلى الإيرانيين أو عناصر من حزب الله».
انتظرت واشنطن حتى 20 أيلول 2006 لتكشف الواقع المحرج: العبوات الخارقة والمتطورة المستخدمة في العراق «إيرانية الصنع»، بحسب تعبير قائد القيادة الوسطى في الجيش الأميركي آنذاك جون أبي زيد. تتخطى قضية العبوات حدود العراق. من منظور إقليمي، هي جزء من مواجهة «غير تقليدية» بين طهران وواشنطن، كما يقول أبي زيد.
ومع نهاية عام 2006، ذكر تقرير استخباري، كشفت النقاب عنه صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، أن الهجمات بالعبوات الخارقة للدروع أدّت إلى مصرع 30 في المئة من القتلى الأميركيين في العراق خلال الربع الأخير فقط من تلك السنة، مع الإشارة إلى «عدم وجود آثار لهذه العبوات في محافظة الأنبار السنية».
وراح الأميركيون والبريطانيون يشرحون حجم تأثير هذه العبوات، في خطوة جعلت من القضية ورقة قوة بيد إيران!
يقول خبير عسكري أميركي: «تكمن خطورة العبوات الخارقة للدروع في كونها تُزرع بجانب الطرق، ولا تحتاج للحفر في الأرض، بالاستفادة من قابلية التمويه، بحيث تتخذ أشكال صخرة أو أي عنصر موجود في الطبيعة، ما يعقّد اكتشافها. كما تمتاز هذه العبوات بكونها غير قابلة للتعطيل بواسطة التشويش الإلكتروني. كذلك، تستخدم بعض أجهزة إرسال إشارات التفجير لهذه العبوات الموجة نفسها التي استُخدمت ضد القوات الإسرائيلية في لبنان».
وفي هذا الإطار، تنقل «نيويورك تايمز» عن محلّلين في أجهزة الاستخبارات الأميركية قولهم إن «أجزاء العبوة الخارقة للدروع المستخدمة في العراق موجودة في مكان واحد في العالم: لبنان، حين سلمت إيران في عام 1998 السلسلة نفسها من هذه العبوات إلى حزب الله».
تعتمد مزاعم الأميركيين على الاستجوابات التي خضع لها أفراد في ميليشيات شيعية عراقية يتهمها الاحتلال بأنها على علاقة بالحرس الثوري الإيراني وحزب الله.
لم تكن العبوات هي السلاح الوحيد الذي يعاني الجيشان الأميركي والبريطاني خطره في العراق.
فقد جرى الحديث أكثر من مرة عن صواريخ مضادة للدروع، وبالتحديد قاذفات طراز «بي 29».
في خلاصة التجربة البريطانية في العراق، (إذا ما أضفنا إليها قضية احتجاز البحارة البريطانيين من جانب البحرية الإيرانية قبل 3 أعوام)، استنتجت لندن ما يأتي: «تقول إيران ببساطة إنّ هذا نموذج عما ستواجهونه إذا قُصفت مفاعلاتنا النووية»، بحسب تعبير مسؤول استخباري أميركي.
بعد حرب تموز 2006، وبعد العدوان على غزة، ومع استبعاد خيار الضربة لإيران برحيل إدارة جورج بوش، وفي ظل الانحدار الإسرائيلي، تلجأ بريطانيا إلى خيار الحوار مع حزب الله، باعتباره أهم أذرع القوة الرئيسية للجهادية الشيعية في المنطقة.
وبغض النظر عما يمكن أن يصل إليه هذا الحوار، فهو يعكس بالتأكيد واقعاً استراتيجياً جديداً فرضه منطق المقاومة خلال السنوات الأخيرة، علماً بأن الجهادية السنية التقليدية (المتمثلة بتنظيم القاعدة) ساهمت نفسها في تكوين القناعة البريطانية من خلال اتباع نموذج مختلف جذرياً عن حزب الله الذي ترجم صموده وانتصاراته العسكرية إلى دعم شعبي هائل من خلال شبكة خدمات اجتماعية ليس لها مثيل لدى تنظيم «القاعدة».
تعرف لندن أنّ «الاستراتيجية المرتكزة على القوة العسكرية لم تكن فعالة» في مواجهة الجهاديين، بحسب تقرير صادر معهد «راند» الأميركي للدراسات الدفاعية. في المقابل «وحدها الاستراتيجية المرتكزة على الاستخبارات يمكن أن تكون فعالة». الحوار البريطاني مع حزب الله، الآن، يصب في هذا السياق.
* كاتب لبناني