أحمد بهاء الدين شعبان *في أول تصريح صحافي له فور مغادرته سجنه، أدلى زعيم حزب «الغد»، أيمن نور، بتصريح هام، دلالته لا تخفى على لبيب! قال أيمن نور: «أنا لست أمير الانتقام، ولست في وارد تصفية الحسابات مع من تسبب في محنتي»، داعياً إلى طي صفحة الماضي، باسطاً يده إلى الجميع، بما في ذلك الحزب الوطني الديموقراطي، حزب السلطة التي حبسته طوال السنوات الماضية، وشنت عليه حملة شعواء، ورد عليها من معتقله بحملة لم توفر اتهاماً، ولا تحفظت في وصف. وطالب نور بتحقيق «مصالحة وطنية من أجل العدالة والديموقراطية»!
والمقصود بـ«أمير الانتقام» هنا، الفيلم السينمائي الغنائي الشهير الذي عُرض في أواخر عام 1950، والمقتبس عن رواية «الكونت دى مونتي كريستو»، وقام ببطولته أنور وجدي، مع نخبة من كبار الممثلين على رأسهم محمود المليجي وكمال الشناوي وحسين رياض. والقصة تحكي حكاية إفلات البطل من مؤامرة لحبسه، وتخطيه صعاباً جمّة، انتهت بإفلاته من سجن ناءٍ رهيب كي يبدأ رحلة انتقام لا تتوقف إلا بعد أن يتخلص من كل أعدائه والمتسببين في محنته، واحداً إثر آخر.
وبالطبع، كان خروج أيمن نور من السجن، تماماً كدخوله، مصدر عاصفة من الاهتمام والتعليقات والتكهنات، مرجعها شخصيته اللافتة وطموحه الكبير الذي لا يخفى على متابع. فقد كان أصغر رؤساء الأحزاب (الشرعية) التي استحصلت على موافقة «لجنة الأحزاب» الرسمية، الضرورية لكي يصرح لها بالنشاط، وصل هذا الأمر بسرعة كبيرة قبل فترة وجيزة من انتخابات الرئاسة الأخيرة، أواخر عام 2005، فيما مرّ على أحزاب أخرى تقدمت بطلب الموافقة ذاته، كحزبي «الكرامة» الناصري و«الوسط» الإسلامي المستنير، نحو 14 عاماً دون الحصول عليها! وكان واضحاً آنذاك، أن للسياسي الشاب دوراً مُتصوراً لدى دهاقنة الحكم في المطبخ الداخلي للنظام، بمناسبة المعركة الرئاسية المفروضة المقبلة، التي أجبر النظام على خوضها لإعطاء الوضع في مصر نكهة ديموقراطية شكلية، عقب الضغوطات المؤقتة التي تعرض لها من الولايات المتحدة، في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير.

«الكومبارس» يتمرد

كان الدور المرسوم لأيمن نور هو دور الكومبارس الذي يمنح المعركة الانتخابية بريقاً يخالط الحقيقة، دون أن يمثّل تهديداً يؤرق «سيادة الرئيس» الذي اضطر إلى تقديم تنازلات صورية للمعارضة الخارجة إلى الشارع، لأول مرة، تحمل شعارات «كفاية»، «لا للتمديد، لا للتوريث» ، فأدخل تعديلات دستورية شكلية عززت من سلطاته الضخمة، في إطار ادعاءات بفتح باب المنافسة على كرسي الرئاسة. واختير للعب دور «السنيدة» في هذه الملهاة المحسومة النتيجة سلفاً، نعمان جمعة، رئيس حزب الوفد السابق (الذي سُجن هو الآخر بعد إقصائه من رئاسة الحزب)، لينافس أيمن نور، القيادي الشاب السابق في الحزب نفسه قبل أن يتركه سعياً وراء مشروعه الخاص، مؤسساً حزب «الغد» الذي نجح في فترة وجيزة في استقطاب عدد ملحوظ من الشباب الجديد على الحياة السياسية الراكدة، جذبهم إليه صغر سن زعيمه مقابل رؤساء الأحزاب الأخرى الذين تجاوز أكثرهم الثمانين، وحركيته الدافقة، وما أشاعه من حيوية واكبت حيوية المجتمع ذاته، الذي كان يشهد بداية نهوض شعبي، أصبحت ملامحه أكثر وضوحاً اليوم.
وتمثلت المفاجأة التي قلبت شروط اللعبة في أداء أيمن نور المتميز خلال المعركة الانتخابية حيث حل وصيفاً أول، متفوقاً على السياسي المخضرم، زعيم حزب «الوفد». لكن الأخطر، الذي سبّب انقلاب النظام على نور، كان بروزه خلال فترة الدعاية الانتخابية، بشكل تخطى فيه حدود دوره المطلوب، أو المتفق عليه، متجاوزاً دور الكومبارس المساند للنجم، أو اللاعب الأول والأخير، «سيادة الرئيس»!
ثم تبدت علامات تشير إلى أن السياسي الشاب أخذ يحظى برعاية أميركية خاصة، إعلامية ودبلوماسية. أرّقت الحكم فكرة أن الولايات المتحدة قد تجد فيه بديلاً يحل استعصاءات الوضع السياسي المصري، في ظل اهتراء حكم الرئيس مبارك وشيخوخة أركانه، وعجز المعارضة (الرسمية)، وغياب البديل الجاهز حسب «الكتالوغ» الأميركي. الرعب دفع النظام إلى التحرك بسرعة وعنف، فور انقشاع غبار المعركة الرئاسية التي انتهت بفوز الرئيس مبارك بالطبع، وذلك لقطع الطريق على أية احتمالات مستقبلية تهدد إمكان توريث جمال مبارك، إذا أزفت الساعة، وحلت اللحظة التي لا بد من حلولها.
وهكذا، دُبّرت عملية اتهام نور بتزوير توكيلات له من مواطنين يطلبون الانضمام لحزبه. أعلن الأمن فجأة عن اكتشافها، رغم امتلاك نور ما هو أكثر من النصاب القانوني اللازم لحصوله على موافقة «لجنة الأحزاب» على التصريح له بمزاولة النشاط، (الشاب الذي أبلغ عن التزوير المزعوم ، و«اعترف» بالمشاركة فيه، «حسب تعليمات من د. أيمن» وُجد مقتولاً في زنزانة السجن بعدما حاول التراجع عن اعترافاته). وفتحت أبواب مجلس الشعب يوم عطلة، لاستصدار قرار برفع الحصانة البرلمانية عن نور، ونظمت حملة هجوم بشعة، واسعة النطاق، قادها عناصر الحزب الحاكم، وأعضاء مجلس الشعب من المنتمين للنظام، وصحفه ووسائل إعلامه، لتشويه صورته واغتياله معنوياً، حسب الطريقة المعتادة في بلادنا، ركيزتها الأساس هو اتهامه بـ«العمالة لأميركا»، والاستقواء بالأجنبي!.
وقد أثار الإفراج المفاجئ عن أيمن نور لغطاً كبيراً في المجتمع المصري، زاد من تعاظمه أن الرجل المولع بالإعلام، والمدرك لسطوته، خرج من السجن إلى أضواء الاستوديوهات التلفزيونية، وساحات الصحف المستقلة والمعارضة، لكي يعوض غيبته التي طالت لأكثر من ثلاث سنوات، وليعود إلى صدارة الصورة في ظل جدل محتدم عن دواعي إفراج السلطة المفاجئ عنه وملابساته، بعدما بُحت الأصوات طوال الفترة الماضية بالدعوة لإطلاق سراحه، ولو بعد انقضاء ثلاثة أرباع المدة، دون جدوى.

العامل الأميركي

العامل الأميركي بالطبع كان محل إجماع كل من تصدى لمحاولة تفسير لماذا أطلق سراح أيمن نور في هذا التوقيت بالذات، أي بعد شهر واحد من تنصيب باراك أوباما، وانتهاء كابوس الرئيس السابق الذي جثم على صدر المنطقة لثماني سنوات متصلة. ففي الولاية الثانية لجورج بوش، طرحت إدارته فكرة أن المنطقة تحتاج إلى تغيير المناخ العام القائم، الذي وفّر الشروط المواتية لنمو ظاهرة «الإرهاب» بمخاطرها العالمية، الأمر الذي يستتبع دفع أنظمتها إلى تبني نوع من الانفتاح يخفف من وطأة حالة الاستبداد والتخلف الراهنة، حتى ولو عبر ما أسمته وزيرة الخارجية السابقة، كونداليزا رايس، استراتيجية «الفوضى الخلاقة».
وقد أصاب هذا الأمر النظم الحاكمة بالذعر، هي التي استندت بالأساس إلى الدعم الأميركي، واستقوت به في مواجهة شعوبها، ولجأت إلى استخدام كل دهائها من أجل تفريغ الوضع من شحنته الانفجارية المهددة، عن طريق استراتيجية مضادة مُركبة، غطّت ثلاثة نطاقات متداخلة:
ــــ أولاً، شن حملة تشويه لكل الاتجاهات والحركات المطالبة بتغيير ديموقراطي حقيقي، تحتاج إليه البلاد احتياجاً ماساً، ومحاولة وصمها بأنها تتحرك تلبية لمتطلبات الأجندة الأميركية، حتى ولو كانت، كـ«حركة كفاية» معادية، بحكم مبادئها التأسيسية وأيديولوجيات مؤسسيها، للصهيونية والإمبريالية الأميركية. والهدف عزلها عن المواطنين، مع محاولة الضغط واستخدام التلويح بالعامل المادي، لاختراق القطاعات الأخرى المتمردة وقيادتها المستقلة، كالقضاة وأساتذة الجامعات والمحامين...
ــــ ثانياً، إبراز القبضة البوليسية الباطشة، وتطوير آليات القمع وتقنياته، واستخدامهما على أوسع نطاق لقطع الطريق على أية ظروف تسمح بتبلور حركة معارضة موحدة وقادرة. فى الأعوام الأخيرة، بلغ عدد قوات الأمن المركزي التي تحاصر حركة الاحتجاج الاجتماعي والسياسي المتنامية في مصر، مليوناً و400 ألف عنصر، فضلاً عن مئات الآلاف من الضباط والمرشدين والمخبرين والجواسيس... يصرف النظام على إعدادهم نحو 11 مليار جنيه كل عام من موازنة الدولة، تُُستقطع من قوت الشعب وحاجاته الضرورية.
ــــ ثالثاً، اللجوء لشتى الحيل من أجل تهديد الإدارة الأميركية، مثلما حدث بوصول 88 نائباً من جماعة الإخوان المسلمين إلى عضوية مجلس الشعب، بعد فوزهم في الانتخابات الأخيرة، وبهدف الحفاظ على الدعم الأميركي لاستمرار هذه النظم، والكف عن مطالبتها أو الضغط عليها، لتحقيق أي درجة من الانفتاح السياسي. وقد نجحت هذه الاستراتيجية (وخاصة بعد وصول «حماس» للسلطة في فلسطين عام 2007) في دفع إدارة بوش للكف عن أية مطالبة في هذا السياق، لكنها أبقت على توتر مكتوم بينها وبين مبارك، آيته إلغاء الزيارة السنوية المعتادة إلى «البيت الأبيض»، التي كانت تحصل في الربع الأول من كل عام، وكان النظام المصري يعول عليها كثيراً في استمرار التأييد الأميركي وضمان تدفق «المعونة» المستمرة للنظام (نحو ملياري دولار سنوياً)، والتي لم تتوقف منذ توقيع «اتفاقية كامب ديفيد» قبل ثلاثين عاماً.

ذوبان الثلوج

ومع انتهاء عهد الحزب الجمهوري، بدا للجانبين، المصري والأميركي، أن الظروف مواتية لبدء مرحلة جديدة من العلاقات، وخاصة مع تيقن النظام المصري من أن جدول أولويات الرئيس الأميركي الجديد سيكون حافلاً، وأن تركيزه، في الفترة الأولى على الأقل، سيكون مخصصاً لمواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية، وأن محاولات علاجها لن تبقي، على الأرجح، فائض جهد للإدارة الأميركية الجديدة، تصرفها على متابعة الأوضاع الداخلية العربية ومتاهاتها. ومن هنا تلقف النظام المصري الإشارات الأميركية إلى توافر إمكان استئناف الزيارة التقليدية السنوية، شرط أن تسوّى بعض الأمور المعلقة، ومنها وضع كل من الدكتور أيمن نور، الذي أُفرج عنه، وكذلك الدكتور سعد الدين إبراهيم، الذي اتهمته السلطة بالوقوف خلف الموقف (العدائي) للإدارة الأميركية السابقة، وحمّلته مسؤولية التحريض عليها في الأوساط الإعلامية والأكاديمية والسياسية الأميركية، ولوّحت باعتقاله إذا ما عاد إلى القاهرة. وتشير الأنباء المُسرّبة إلى قرب رفع اسم «الدكتور سعد» من قوائم ترقّب الوصول في المطارات المصرية، وبما يعني انتهاء هذه الذريعة. وأخيراً استعداد السلطة لإنهاء «حالة الطوارئ» المفروضة منذ اغتيال الرئيس السابق أنور السادات في 6 تشرين الأول / أكتوبر 1981... واستبدالها بـ«قانون مكافحة الإرهاب» الذي يُبقي الوضع تحت السيطرة المباشرة لقبضة النظام الأمنية دون أن يُحمّلها وطأة المطالبات المستمرة، الداخلية والدولية، بضرورة التخلي عن هذا الوضع الشاذ!
وعموماً، فقد بدأ موسم ذوبان الثلوج بين النظامين الحليفين، المصري والأميركي، بزيارة جمال مبارك التمهيدية لواشنطن (التي تسبق زيارة الوالد!)، الأمر الذي يُرجّح إنجاز باقي السيناريو في المستقبل القريب.
يبقى أن أيمن نور فاجأ الأصدقاء قبل الأعداء، بإعلانه أنه يملك معلومات مؤكدة «عن أشياء كثيرة ومؤثرة سوف تحدث في مصر خلال ثلاثة أشهر»، وأنه «يقبل برئاسة الوزراء في ظل رئاسة جمال مبارك، شرط تقليص صلاحيات الرئيس»، وأنه يتوقع «الإفراج عن عدد كبير من المعتقلين السياسيين في الفترة المقبلة»، وهي التصريحات التي أحيت ما شاع من تكهنات بأن قرار الإفراج عن نور، في هذه الفترة بالذات، خطوة هامة تعكس دوراً محورياً سيلعبه، في الإعداد لسيناريو «التوريث» المقبل، الذي ما زالت أشباحه تحلق فوق سماء المحروسة.
* أحد مؤسسي حركة «كفاية»