علي شهاب *يقدّم التدخل الإعلامي والسياسي والأمني الأميركي والبريطاني في أحداث إيران، أوراق قوة بالمجان لنظام ولاية الفقيه، بسبب حسابات خاطئة انطلقت منها دوائر صنع القرار الغربية.
أولاً: إن تنفيذ عملية انتحارية عند مرقد الإمام الخميني، الذي تحظى رمزيته ومقامه بإجماع الإيرانيين على اختلاف مشاربهم، يُعطي الذريعة المناسبة للجمهورية الإسلامية لتكون ضمن طليعة الدول المكافحة للإرهاب. صار من حق الرئيس محمود أحمدي نجاد، على سبيل المثال، أن يأمر سلاح الطيران، الذي يُنفذ مناوراته على علو منخفض جداً في الخليج، بقصف معسكر «أشرف» التابع لمنظمة مجاهدي خلق المعارضة في العراق، أو المعسكر الذي تدرب به القوات البريطانية خلايا أمنية في مدينة البصرة العراقية. ألا تفعل الطائرات الإسرائيلية والأميركية ما هو أهم وأخطر من خطوة مفترضة كهذه بذريعة مكافحة الإرهاب؟
ثانياً: هناك اتهام رسمي إيراني صريح، بدءاً من موقع المرشد فرئاسة الجمهورية إلى الخارجية والداخلية، للبريطانيين تحديداً، والدول الكبرى الثلاث الأخرى (فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة)، بإدارة شبكات تخريب وعمليات أمنية قبل الانتخابات وإبانها وبعدها. في المفهوم التقليدي الإيراني، هذا التورط البريطاني، والغربي عامة، لن يمر من دون حساب. بإمكان المراقبين العودة إلى تاريخ العلاقة بين البلدين. حادثة اعتقال البحارة البريطانيين الثلاثة عشر واشتداد العمليات ضد القوات البريطانية في العراق في مفاصل معينة لا تزال حاضرة في الأذهان. في هذا الإطار أيضاً، تجدر ملاحظة العملية النوعية النادرة التي نُفذّت ضد قاعدة «باغرام» الجوية في أفغانستان، من دون أن تعلن حركة «طالبان» مسؤوليتها عن الهجوم!
ثالثاً: من المهم الإشارة إلى المأزق الذي أوجد البريطانيون أنفسهم فيه في تعاطيهم مع عناصر «الهلال الشيعي». يفترض تنفيذ السيناريو المرسوم إزاء إيران وحزب الله ترتيب ساحات معينة. في هذا السياق، صدرت توصية هامة عن لجنة العلاقات الخارجية في مجلس العموم البريطاني ورُفعت إلى الحكومة البريطانية، قبل أسابيع قليلة من الانتخابات النيابية في لبنان، جاء فيها: «نستنتج أن حزب الله عنصر هام في حياة لبنان السياسية بالرغم من أن نفوذه لا يزال خبيثاً في الجوهر. على الحكومة البريطانية تشجيع حزب الله على لعب دور في الحياة السياسية بما أن عملية نزع سلاحه لن تحصل إلا من خلال عملية سياسية. نوصي الحكومة البريطانية بإجراء مباشر مع نواب الحزب المعتدلين مع الاستمرار في رفض الحوار مع الجناح العسكري للحزب. إن التحدي يقع في العثور على طريقة لدق إسفين بين الجناحين السياسي والعسكري في حزب الله».
هذه التوصية تتلاقى مع ما أصدره معهد «فرايد» للدراسات الأوروبية بشكل توصية أيضاً إلى الحكومة البريطانية، حيث خرج بالنتائج الآتية:
ـــ لا يمكن هزيمة جماعة متمردة تستند إلى دعم الشعب.
ـــ بهدف عزل حزب الله، يجب دعم الحكومة اللبنانية المركزية وسياسيين شيعة بعيدين حالياً عن الحياة السياسية.
ـــ إن شنّ حرب أخرى ضد حزب الله، يمكن أن يؤدي إلى نهاية لبنان كدولة. كما أن تقسيم لبنان إلى دويلات طائفية (ودعم هذا الخيار) لن يحل مشكلة حزب الله.
ـــ تغيير النظام في سوريا وإيران أمر مرغوب به، إلا أنّ كلفة ذلك لا تزال غير معروفة، لذا لا يزال الخيار البراغماتي هو الحل الأفضل.
رابعاً: حتى اليوم الأخير من الولاية الأولى لنجاد، كان القرار الاستراتيجي لإدارة باراك أوباما محاورة طهران وترتيب الوضع الإقليمي بمساعدتها. منذ اللحظة الأولى لصدور نتائج الانتخابات الإيرانية، ترنّح خطاب أوباما بين ثلاثة مستويات: تدخل بقوة بداية، ثم تراجع بعد خطاب المرشد، فعاد ليتدخل مع استمرار أعمال الشغب. حالياً، بإمكان المفاوضين الإيرانيين العودة إلى نقطة الصفر على صعيد جميع الملفات في الجولة المقبلة مع الأميركيين.
خامساً: تكاد جميع الدراسات والتقارير العسكرية، البريطانية والأميركية والإسرائيلية التي صدرت بعيد حرب تموز 2006، لا تخلو من سيناريو تحريك مجموعات أمنية في الداخل الإيراني بالتوازي مع توجيه ضربة جوية للمنشآت النووية عبر ممرات جوية يسلكها الطيران الإسرائيلي (أو الأميركي) عبر دول عربية. المناورات الإسرائيلية الأضخم الأخيرة «نقطة تحول 3» وخطاب بنيامين نتنياهو يعطيان المبرر المناسب لإيران لاستنفار قدراتها العسكرية في هذه المرحلة إلى أقصى الحدود، لناحية تعزيز خطوط إنتاج الصناعات العسكرية المحلية أو فتح باب الاستيراد على مصراعيه، فضلاً عن مزيد من الإصرار على استكمال البرنامج النووي السلمي.
تجدر الإشارة هنا إلى ملاحظة تقنية بخصوص المناورات الحالية لسلاح الجو الإيراني: ترتكز المناورات على التدريب على إمداد الطائرات بالوقود في الهواء لكونها تتدرب على عمليات يتطلب تنفيذها قطع مسافة 3600 كيلومتر؛ أي المسافة بين أول نقطة في الحدود الشمالية لإيران وآخر نقطة في حدود إسرائيل.
سادساً: أمام الأجهزة الأمنية الإيرانية فرصة ذهبية لاعتقال ما تشاء من الشبكات وتفكيكها، تحت ذريعة حفظ استقرار البلاد، من دون أن تنال هذه الخطوة من ديموقراطية النظام، إذ إن وقوع أي أعمال شبيهة بما حصل في إيران خلال الأيام الماضية في أي دولة شرق أوسطية كان سيلقى رد فعل غير محدود من النظام الحاكم.
سابعاً: يعاني الإعلام الإيراني الرسمي والخاص ضعفاً في مخاطبة العالم. لكن التغطية الغربية لخطاب المرشد والحديث المتواصل عن ولاية الفقيه ومؤسسات النظام تقدّم، بغير عمد، خدمة جلية لإيران. وهنا يجب فصل ديموقراطية الولي الفقيه عن ديموقراطية المؤسسات الإيرانية.
لقد أمسك المرشد الأعلى بالعصا من النصف، فلم ينحز إلى أي من الطرفين؛ وهو بخطابه استطاع استيعاب كل رموز البلاد وتيار الرئيس الحالي. والأهم أن المرشد وضع الأسس للتسوية السياسية الممكنة التنفيذ في الأيام القليلة المقبلة من خلال مدح المناظرات الرئاسية التي جرت بين المرشحين ودعوته إلى متابعتها في السنوات الأربع المقبلة من خلال المؤسسات، علماً بأن خيارات أخرى كثيرة لا تزال في يد السيد الخامنئي على صعيد استيعاب ردة فعل الإصلاحيين الذين فقدوا في أربع سنوات الكثير من بريقهم الشعبي وبدأوا بخسارة مواقعهم في الدولة منذ انتخابات المجالس البلدية الثانية في العاصمة طهران، ومن ثم انتخابات مجلس الشورى الإسلامي خلال الدورتين السابعة والثامنة.
أما في ما يخص مؤسسات النظام، فيكفي الاستماع إلى قناة «العربية» وهي تشرح دور مجلس صيانة الدستور ومجلس الشورى ومجلس الخبراء وغيرها من المجالس كي يُدرك المشاهد أن هناك فعلاً مؤسسات تدير البلاد في إيران.
ثامناً: لا تعكس الملاحظات والتوصيات التي يخرج بها متابعون غربيون مرموقون إزاء العملية الانتخابية في إيران صورة قاتمة كتلك التي يقدمها الإعلام الغربي والعربي. في هذا المجال، نلفت إلى ما جاء على لسان زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي السابق في الولايات المتحدة، بدعوته إدارة أوباما إلى عدم التدخل في الشأن الإيراني. وقد تلقّف فريق معتدل في البيت الأبيض هذه الدعوة منذ أيام من خلال تصريح رسمي رفضت فيه واشنطن أن تصبح «أداة في الأحداث الداخلية الإيرانية».
بدوره، يسلط أحد أقدم محافظي بريطانيا اللورد نورمان لامونت على «ديموقراطية إيران بوصفها واحدة من أفضل الديموقراطيات في المنطقة؛ فحتى خامنئي ينتخبه مجلس الخبراء الذي ينتخبه الشعب»، مضيفاً، في حديث لصحيفة «الرأي»، أن «العالم العربي متخلف عن إيران في حقوق المرأة عموماً».
أما رئيس تحرير موقع التحليلات والأخبار «جيوبوليتيكا» الروسي بافل زريفولين، الذي شارك بكونه مراقباً عن روسيا في الانتخابات الرئاسية الإيرانية، فأعلن صراحة لوكالة «نوفوستي» أنه «لم يشهد في بلاد أخرى شارك فيها بمراقبة الانتخابات ديموقراطية كتلك الموجودة في إيران»، مضيفاً أن «وسائل الإعلام الغربية بالغت جداً في أبعاد الصدامات».
في الخلاصة، تستمد نظرية «ولاية الفقيه» منطقها من نقاشات واجتهادات فكرية، يتفرد بها الشيعة، بدأت منذ لحظة غيبة الإمام المهدي؛ الإمام الثاني عشر لدى هذا المذهب. إن الخوض في تفاصيل مباني نظرية الحكم السياسي هذه يشير بوضوح إلى براغماتية ومرونة عالية تتحركان ضمن مؤسسات صلبة في مختلف مجالات الحكم، وتتكيفان تبعاً للظروف المحيطة من أجل المصلحة العليا للبلاد. وبالتالي، ليست ولاية الفقيه بأي شكل من الأشكال سلطة منعزلة عن سلطة الشعب بل هي في أصل إرادته والحاضن الرئيسي لأشكال التعبير الصادرة عنه.
قبل سنوات طويلة، قال وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسينجر إن إيران هي «النسر الذي نُخوّف به الآخرين والجهل الذي نُسكنه عقول الآخرين».
في طهران، يتداول السياسيون والإعلاميون والباحثون شعاراً أطلقه الإمام الخميني في بدايات الثورة مفاده أن «الحمد لله الذي جعل أعداءنا من الحمقى».
بدوره، كتب جون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، مقالاً نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» تحت عنوان «مع إيران: فكّر قبل أن تتحدث». قد يكون ما تبثه قناة «العربية» مرة أخرى مصداقاً لهذا التوصيف. قبل أيام وجهت إحدى المذيعات سؤالاً لضيفها عن «ديكتاتورية» الولي الفقيه جاء فيه: هل سيقوم رفسنجاني، رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، بعزل المرشد خامنئي؟
* كاتب لبناني