تتّجه السلطات البحرينية نحو إيصاد كلّ أبواب الحوار مع معارضيها، وتكميم أفواه حتى من يقتصر دورهم على نقل هواجس الناس وقضاياهم. هذا ما أنبأ به، أخيراً، توقيف خطيب الجُمعة المركزية في البحرين، الشيخ محمد صنقور (الذي زُكّي من قبل المرجع الشيخ عيسى قاسم للمَهمّة)، لأربعة أيام، والذي بعث برسالة واضحة مفادها: لا شراكة وطنية في المملكة بأمر من الملك حمد بن عيسى. صحيح أن الاتفاق السعودي - الإيراني كان خرَق الجمود الحاصل في الإقليم، ودفع مراقبين إلى توقّع انعكاس سريع على الساحة البحرينية، غير أن الآلة القمعية في المنامة سرعان ما دحضت كلّ التوقّعات الإيجابية. والظاهر أن الوسط العلمائي يشكّل الهدف الرئيس للموجة الأحدث من القمع، ولا سيّما بعدما بات المنبر الأسبوعي في بلدة الدراز، بعد الغياب القسري للشيخ قاسم، محطّةً مُنتظرة لدى فئة أساسية من المجتمع البحريني. ومنذ استئناف صلاة الجُمعة في جامع الإمام الصادق في الدراز قبل نحو عام، وضعت أجهزة النظام هذا المنبر الديني نُصب عينيها، على رغم تبنّيه لغة هادئة ورزينة في عرض مطالب مَن يمثّلهم.وبحسب المعلومات، فإن منبر الجُمعة لم يسلم طيلة الفترة السابقة من المُلاحقات الأمنية، بل تعرّض إماما الصلاة فيه لمضايقاتٍ عديدة واستدعاءات غير رسمية وغير مُعلَنة. كما تلقّيا اتّصالاتٍ أكثر من مرّة من قِبل أكثر من جهة وعنوان، مردُّها وزارة الداخلية وشرطة الدراز، تبلّغهما بالاعتراض على مُحتوى الخُطب والكلمات غير الفقهية لديهما، وتطلب منهما تعديله بما يقتصر على الجانب الديني البعيد من القضايا الآنية في البلد. على أن هذا الترهيب لم يؤتِ ثماره، إذ حافظ الخطيبان على أسلوبهما، واستمرّا في التطرّق إلى ما يريانه حقوقاً طبيعية للشعب بعيداً من الشأن السياسي المتأزّم منذ عام 2011 (رواتب - ضريبة - بطالة - متقاعدون - تأمينات - غلاء معيشي - فرص عمل). وفي المقابل، تابعت السلطة تشغيل مجموعة من المراسيل الذين كانوا يوصلون تحذيراتها غير المباشرة إلى أئمة الجمعة لتخويفهم.
استفزّ السلطة تطرّق الشيخ صنقور إلى قضية التطبيع بشكل مباشر من باب التربية والتعليم


ولعلّ ما جعل السيل يبلغ الزُبى، بالنسبة إلى السلطة، بعد هتافات المُصلّين ضدّ العدو الإسرائيلي والتطبيع الذي فرضه الحاكم بالقوّة، تطرّق الشيخ صنقور إلى القضية بشكل مباشر من باب التربية والتعليم. إذ حاول خطيب الجمعة تقديم ما يُشبه النصيحة للحكومة والنظام، بالعدول عن خطأ تغيير المناهج والبرامج التعليمية لتُهادن الكيان الصهيوني، داعياً إلى المساءلة بما يحفظ هوية البحرين وثوابتها التاريخية. وبعد أيام قليلة من ذلك، استُدعيَ رسمياً إلى التحقيق، وسُئل عن فحوى الخطاب، وتحديداً في ما يتعلّق بإسرائيل والمُعتقلين السياسيين في «سجن جَو». وعلى الأثر، أُحيل إلى النيابة العامة، حيث كانت تنتظره تُهمة مُعلّبة عنوانها: «بُغض طائفة من الناس والازدراء بها»، والمقصود هنا اليهود. وعلى رغم أن كبار العلماء في الداخل سارعوا إلى التحرّك لردع السلطة عمّا قامت به، وعلى رأس هؤلاء عالم الدين البارز، السيد عبد الله الغريفي (الذي بعث الملك عبره سابقاً بعض الرسائل على صعيد قضية السجناء السياسيين/ لقاء نيسان 2022 في قصر الصافرية)، إلّا أن مسعاهم قوبل بردّ غير لائق عنى شيئاً واحداً بحسب المطّلعين عليه: الجميع سيكونون أهدافاً للنظام عندما يتحدّثون في أشياء لا تروق الأخير سواءً على مستوى الوضع الداخلي أو ملفّ التطبيع، وما عبارة: «عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء» الواردة في بيان المباحث الجنائية إثر توقيف صنقور، إلّا أوضحُ الأدلّة على ذلك.
على أيّ حال، وبعد أربعة أيام على التوقيف، أُفرج عن صنقور بأمرٍ من وليّ العهد، رئيس مجلس الوزراء سلمان بن حمد. لكن القضية لم تنتهِ، فيما لم يُعطَ العلماء أيّ ضمانات بعدم التعرّض لهم ثانيةً، لا بل تأكَد أن لا وساطات بعد الآن، وأن الحوار مُجمّد، ولا إمكانية لتحريك المياه الراكدة. هكذا، لم تنعكس الديناميات «التهدوية» التي ولّدها الاتفاق السعودي - الإيراني، إيجاباً على البحرين، فيما يذهب البعض إلى أن ما تشهده الأخيرة حالياً إنّما هو رسالة من الملك حمد بن عيسى بأن بلاده لن تتأثّر بالاتفاق، وبأن نظامه سيظلّ عصيّاً على الإصلاح والتجاوب مع أيّ مطلب داخلي، أقلّه حتى تتّضح صورة الاتفاق وحدوده في منطقة الخليج.