أسئلة كثيرة ما زالت معلّقة في شأن مغادرة السعودية مربّع التوتير، وتوجّهها نحو المصالحات مع خصوم الأمس المحيطين بها من كلّ صوب. لكن الأكيد أن ما يجري حالياً من تغيير كبير في السياسة السعودية، لا يمثّل انقلاباً تامّاً على الولايات المتحدة وعلى الغرب عموماً. فالمملكة واقعةٌ تحت التأثير الغربي منذ عشرات السنين، أو ربّما أكثر من مئة سنة، ولا تقتصر علاقاتها مع الغربيين على الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية، بل نجح الأخيرون، على امتداد كلّ تلك الحقبة، في الدخول إلى جميع مناحي الحياة في المملكة والخليج، ولا سيما الجانبين الاجتماعي والثقافي حيث اعتاد الناس الأنماط الغربية في الحياة، وأصبح للمستشارين والمديرين الغربيين أدوار في مفاصل الدولة كافة، ممّا لا تملك منه القوى العالمية الأخرى، بما فيها الصين وروسيا شيئاً. وعلى سبيل المثال، فإن «هيئة الترفيه» إنّما تسعى إلى دفع المجتمع نحو التوغّل أكثر في الثقافة الغربية، وليس التحوّل نحو الثقافة الصينية أو الروسية، ولا حتى نحو التنويع، حيث ما زالت علاقة المملكة بروسيا تقتصر على التنسيق في قضية النفط، ومع الصين على النفط والعلاقات التجارية، إذا ما استثُني الاختراق الأخير الذي أحدثته بكين بضمانتها الاتفاق بين الرياض وطهران. ولذا، فإن وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، قد يكون استفاد من فرصٍ أتاحتها الظروف الدولية الراهنة، إلّا أنه ما زالت أمامه رحلة طويلة جدّاً إذا ما أراد الانقلاب فعلياً على الأميركيين، هذا إذا غُضّ النظر عن أن الرجل نفسه هواه أميركي وغربي، وأنه جاء إلى السلطة في المقام الأول، بتدبير أميركي. الدافع الأساسي وراء توجّه السعودية نحو الاتفاق مع إيران، هو أن المملكة وجدت نفسها محاطةً من كلّ صوب بخصوم أقوياء متحالفين مع طهران، في العراق واليمن وسوريا ولبنان وأماكن أخرى، ويئست من إمكانية دفاع الأميركيين عنها في مواجهتهم، فيما الإسرائيليون منشغلون بانقساماتهم الداخلية وبالكاد يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. وكان فشل الاضطرابات الأخيرة في الجمهورية الإسلامية، والتي تورّطت فيها الرياض، بمثابة تأكيد أخير للسعوديين أنهم لن يستطيعوا إسقاط إيران، فضلاً عن أنه أثار مخاوف لديهم من ردّ فعل إيراني انتقامي على التدخّل المذكور، فكان القرار بالتوجّه مباشرة إلى عقد اتّفاق مع الخصم. إلّا أن ذلك لا يعني نهاية التنافس بين الجانبَين، وإنْ عادَل حتماً العمل على وقف الحروب العسكرية التي ينخرطان فيها، وتخلّي كلّ منهما عن هدف الإطاحة بنظام الآخر. وفي هذا المجال، تعتقد الرياض أن الانتقال إلى استخدام ما يمكن وصفه بـ«القوة الناعمة» أكثر جدوى بكثير، خاصة وأنها تمتلك أدوات تُمكّنها من التفوّق فيه، بسبب الوفرة المالية لديها، وبالنظر إلى كونها مندرجة منذ زمن بعيد في سياق التحالف الغربي الذي ابتدع استخدام هذه القوة، وبالتالي هي تمتلك تجربة عريقة هنا. يذْكُر أحد المعارضين السعوديين، على سبيل تأكيد ما تَقدّم، أنه أثناء مصالحة بين المعارضة والنظام أتاحت الإفراج عن معتقلين وعودة آخرين من المنفى أيام الملك فهد، كان الشرط الأول للنظام، والذي تولّى عثمان العمير نقله، هو إغلاق مجلّة «الجزيرة» التي كانت تُصدرها المعارضة من لندن، على رغم أن تأثيرها محدود جدّاً.
كان فشل الاضطرابات في إيران بمثابة تأكيد أخير للسعوديين بأنهم لن يستطيعوا إسقاط الجمهورية الإسلامية


إدراك الرياض أهمّية الإعلام، واستخدامه، ليس بحاجة إلى شواهد؛ فهي كانت الدولة الأولى التي أنشأت جرائد ذات طابع عربي، في حين تستحوذ شبكة «أم بي سي» على النسبة الأعلى من المشاهدة العربية، وبالتالي ممارسة التأثير الأكبر في عملية «كيّ الوعي»، فضلاً عن نجاحها التجاري الذي يضمن لها مردوداً مادياً. لقد تعلّمت الرياض كيف تقرأ أمزجة الشعوب جيداً، وكيف تستخدم المال لاختراقها. ولذلك، فإن الناس يعرفون الأدوار السيّئة التي قام بها النظام السعودي على مدى عشرات السنين في المنطقة والعالم، ولكن عملية «كيّ الوعي» تُنسيهم إيّاها. ففي العراق على سبيل المثال، حيث سُجّل للرياض دور تخريبي كبير حين كان الانتحاريون يتدفّقون من المملكة بالآلاف إلى هذا البلد قبل بضع سنوات فقط، سرعان ما نسي الناس ذلك الدور، ولا سيما في أوساط الشيعة الذين كانوا الأكثر تضرّراً منه، وصاروا يَنشدون حلولاً لمشكلاتهم الاقتصادية من المملكة بالذات. ومردّ الواقع المُشار إليه، أن السعوديين اشتغلوا على جوانب كثيرة، من بينها، مثلاً، شغف العراقيين بالرياضة، مُعلِنين، قبل سنوات، إنشاء «مدينة الملك سلمان الرياضية» في العراق بكلفة 450 مليون دولار ضمن حزمة مساعدات قيمتها مليار دولار، ومساعدين أيضاً في دعم استضافة العراق لكأس الخليج العام الجاري. ويُضاف إلى ما تَقدّم، نجاح قناة «أم بي سي العراق» في تلبّس خطاب غير طائفي وغير حزبي، لتتفوّق على كلّ القنوات المحلية التي أخفقت في مغادرة خانة الفئوية، وتتمكّن من الوصول إلى كلّ العراقيين. وحتى بعض فصائل «الحشد الشعبي» التي تتعاطى الاقتصاد إلى جانب مهامها العسكرية والأمنية، صارت تُحاذر إزعاج الرياض في محاولة لنيل حصّة من الاستثمارات السعودية الآتية في حال استمرار الانفراجات الحاصلة في المنطقة، فيما أصيب بعض المعارضين السعوديين ممّن كانوا يتردّدون على العراق، بخيبة أمل، نتيجة تعجّل بعض الفصائل الاندفاع نحو المصالحة مع المملكة من دون قيد أو شرط.
«القوة الناعمة» في الأساس استثمار تتعاطاه السعودية لاستخدامه في أوقات الأزمات والتحوّلات، أو لمنع تلك الأزمات والتحوّلات من التأثير عليها، وهو الوضع الذي آلت إليه بعد سلسلة الإخفاقات السياسية والعسكرية في اليمن وسوريا وقطر وتركيا والأردن وغيرها، ما حتّم على قيادتها الحالية، وفي المرحلة الانتقالية التي تعيشها، العودة إلى مثل هذه الحلول. فالمملكة، فضلاً عن عملية انتقال القيادة التي تجري فيها، تعْبُر في الوقت نفسه عملية تحوّل كبرى حصلت قبل ذلك مرّتين في تاريخها، كانت أولاهما خلال الحرب العالمية الأولى، أيام الدولة السعودية الثانية، حين وقّعت إمارة نجد اتفاقية حماية مع بريطانيا ونالت بموجبها مساعدات مالية بريطانية مقابل ضمان أمن الخليج ومواصلاته، بما أزعج آنذاك الكثير من مشيخات الخليج ممّن جاءت الاتفاقية المذكورة على حساب أدوارهم؛ والثانية عام 1945 بتوقيع اتفاقية «النفط مقابل الحماية» مع أميركا. أمّا فترة التحوّل الحالية، فتتّسم بالضياع لكون المملكة لم تحصل بعد على ضمانات لأمن النظام ومستقبله، وهو ما تحاول القيام به من خلال تنويع العلاقات والاستفادة من الفرص المتاحة، والأهمّ من خلال الاتفاق مع الدولة التي كانت تعتبرها الخصم الأساسي، أي إيران. على أن هذا التوجّه لم يكن وليد اللحظة أو نتيجة قرار مفاجئ كما قد يظنّ كثيرون، بل إن القناعة لدى ابن سلمان بعدم إمكانية هزيمة إيران تولّدت منذ مدّة، الأمر الذي اتّضح في مقابلته التلفزيونية الأخيرة في آذار 2022، حينما قال إن «إيران جارتنا إلى الأبد ولن نستطيع التخلّص من بعضنا»، بعدما كان افتتح عهده بمقابلة أولى في آذار 2017، قال فيها إن «إيران منطقها أن المهدي المنتظر سوف يأتي ويجب أن يحضّروا البيئة الخصبة، فكيف تتفاهم مع هؤلاء؟»