عمّان | تَسلّم الأردن من سلطات الاحتلال النائب عماد العدوان، بعد أن أُوقفَ لمدّة 15 يوماً للتحقيق، بتهمة تهريب كمّيات من السلاح والذهب إلى الضفة الغربية المحتلّة، تشمل 12 بندقية و194 مسدساً في ثلاث حقائب، بحسب إعلان «الشاباك». وتزامَن تسليم العدوان مع تصويت مجلس النواب الأردني، بالأغلبية، لرفع الحصانة عن النائب، تمهيداً لعرضه على محكمة أمن الدولة، ومواصلة «التحقيق والإجراءات القانونية»، نظراً إلى اعتراف أطراف القضية الموقوفين بتجارة وتهريب الأسلحة لعدّة مرّات. وأثار توقيف العدوان، ومن ثمّ تسليمه، تساؤلات حول مصيره ومدّة حكمه، وخصوصاً في ظلّ شحّ التصريحات الرسمية الأردنية بشأن قضيّته، ومنع طاقم الدفاع من لقائه أو الحديث معه عدّة مرّات، إلّا أن واحدة من أبرز القضايا التي تسلّط عليها هذه الحادثة الضوء هي ظاهرة تهريب الأسلحة ما بين الضفّتَين وحجمها وامتدادها التاريخي وأهدافها والمواقف الرسمية تجاهها. تُعتبر حقبة الثورة الفلسطينية أشهر المحطّات التاريخية التي شهدت تهريب الأسلحة من الأردن، وخصوصاً عندما شدّدت السلطات المحلّية والبريطانية في شرق الأردن من إجراءاتها القمعية ضدّ الشعب، مع تجدّد الثورة في عام 1937. قاد الثوار هجمات لنسف أنابيب النفط في عجلون، وزرعوا الألغام في الطرق التي سلكتها قوات «بيك باشا» لتعقّب المناضلين، وأعلنت المؤسّسات الوطنية الطالبية الإضراب والاحتجاجات، حتى امتدّت حركة التطوّع إلى أوساط الضبّاط وأفراد الجيش الأردني وقوّة الحدود، ممّن خالفوا أوامر قيادتهم، ورفضوا ملاحقة شعبهم ونظّموا عمليات إرسال الأسلحة والذخائر سرّاً. أقصى الأمير عبدالله، حينها، سبعة ضباط أردنيين برتب عالية من الجيش، وأبعد عدداً من زعماء البلاد الوطنيين، وفي مقدّمتهم الشيخ حديثة الخريشة والأمير صالح الغزاوي والشيخ محمد الحلقي، إلى مناطق بعيدة، بسبب ما تمّ وصفه بـ«التحريض وقيادة الإرهاب والإخلال بالأمن»، بحسب ما وثّقه كتاب الحركة الوطنية الأردنية لعصام السعدي. في الفترة نفسها، حرصت السلطات الاستعمارية البريطانية، مع شركة «سوليل بونيه» الصهيونية، على إنشاء سياج حدودي معزَّز بالألغام والمخافر في مشروع «خطّ تيغارت»، بغرض السيطرة على منافذ تهريب السلاح من سوريا ولبنان وشرق الأردن، وفق كتاب «الاستعمار البريطاني وإجهاض الثورة» لماثيو هيوز.
ارتبطت مهمّة تهريب السلاح عبر الحدود بعدد من القادة الفلسطينيين، أبرزهم الشهيد محمد الحمد (أبو خالد)، الذي قاد مجموعات المقاومين في جبال الجليل ونابلس، ونظّم عشرات عمليات تهريب الأسلحة وتوزيعها قبل وخلال الثورة؛ والشهيد صالح الجهالين الملقّب بـ«ربّان تهريب السلاح» عبر البحر الميت، والذي شكّل خلية تهريب عام 1994 مع الشهداء محمود صلاح ويوسف أبو صوي وأحمد البلبول وعدد من الأسرى المحرَّرين. نفّذت هذه الخلية ستّ عمليات هَرّبت فيها أكثر من 400 قطعة سلاح، فيما لم يتوقّف الجهالين عن التهريب حتى بعد محاكمته وأسره وخروجه في صفقة تبادل عام 2004، حتى استشهد برصاص الإسرائيليين عام 2013 على ضفاف البحر الميّت خلال إحدى تلك العمليات. منذ بدء الانتفاضة عام 2000، أعلن الاحتلال الاسرائيلي إحباط محاولات تهريب أو تسلّل مسلّحين عبر الأراضي الأردنية، كانت إحداها قيام خليل العناتي وبلال الأشقر، وهما أردنيان من أصل فلسطيني وضابطان في حركة «فتح»، بتخزين أسلحة أدخلاها من الأراضي السورية إلى الأردن. وأكّد محامي المتّهمَين، آنذاك، أن موكّلَيه «لم يفكّرا بتهديد أمن الأردن، بل أرادا دعم وإسناد الانتفاضة في وجه الاعتداءات الإسرائيلية»، وشدّد على شرعية المقاومة وضرورة دعمها من الخارج في القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وذلك في معرض الدفاع عنهما في محكمة أمن الدولة التي حكمت عليهما بالأشغال الشاقّة لمدّة سبعة أعوام ونصف عام.
يَمثل المهرّبون الأردنيون أمام محكمة أمن الدولة، ويحاكَمون بموجب قانون منع الإرهاب


إلى جانب العلاقة التاريخية بين الأردن وفلسطين والتركيبة الديموغرافية للشعب الأردني، تشكّل الجغرافيا العامل الأبرز في مشهد التهريب. تَحكم المادة 3 حول الحدود الدولية، والمادة 4 حول الأمن، والمادة 12 حول مكافحة الجريمة والمخدّرات، في «معاهدة وادي عربة» التطبيعية والملحق الثالث للمعاهدة، إدارة العلاقات الأمنية. إلّا أن السيطرة على شريط حدودي يبلغ طوله 335 كيلومتراً، تُعدّ بالغة الصعوبة، وخصوصاً في مناطق الأغوار الجنوبية ونهر الأردن، الممتلئة بشرائط الأرض العميقة والقنوات الصغيرة بين المنحدرات والتلال، والتي تصفها الصحافة العبرية بـ«المناطق العمياء» التي يستخدمها المهرّبون. بحسب نائب مفوّض عام الشرطة، رونين كالفين، فإن السيطرة على تلك المناطق مستحيلة عملياً، حتى لو وُضع جندي إسرائيلي فوق كلّ تلّ، أو سُيّجت كلّ المسافة الحدودية. عام 2016، كان الاحتلال قد أنفق 82 مليون دولار على تحديث مَقطع بطول 30 كم من حدود الأردن قرب إيلات ومطار رامون، وتجهيزه بحواجز عالية ومعزَّزة ومتطوّرة ومزوَّدة بأجهزة استشعار دقيقة. وعام 2021، أنشأ الاحتلال غرفة مشتركة بين الجيشَين الإسرائيلي والأردني بهدف تبادل المعلومات ورصد شبكات تهريب المخدّرات والسلاح، ضمن مشروع أوسع يُسمّى «تنوفا (زخم) للحدود»، ويكلّف 33 مليون دولار. إلّا أن الاحتلال اضطرّ في عام 2022 لإقامة جدار أرضي تحت الأرض بتكلفة مليار دولار، بعدما اكتشف قدرة المهرّبين على اختراق الحواجز وأجهزة الاستشعار عن طريق الحفر أسفلها.
ولا تأتي الأسلحة من الأردن فقط، لكن أيضاً من لبنان وسيناء والجولان وسوريا والعراق، لكنها تمرّ غالباً عبر المملكة، بخلاف الأسلحة الإسرائيلية أو المحلّية الصنع. في نيسان 2021، أحبط الاحتلال عملية تهريب أسلحة من لبنان تضمّنت 100 قنبلة يدوية وقطعتَي سلاح. وفي تشرين الثاني 2022، حقّقت سلطات العدو في تهريب نحو 70 ألف طلقة و70 قنبلة يدوية سُرقت من إحدى قواعدها العسكرية في الجولان السوري المحتلّ، فيما أقرّت تقارير الجيش الإسرائيلي بـ«سرقة» آلاف البنادق والمسدسات والقنابل والصواريخ والقواذف التي بيعت في السوق السوداء، سواء في أراضي الـ48 أو في الضفة الغربية، علماً أن تكلفة البندقية تراوح بين 5 و12 ألف دولار بحسب نوعيتها، وأن ثمن المسدّس يبلغ حوالي ألفي دولار في أسواق الأسلحة الأردنية - تتضاعف هذه الأرقام في الضفة الغربية، ما يجعل التجارة مربحة في الضفّتَين -. وكشف تحقيق لصحيفة «الرأي» الأردنية تفاصيل محاكمة 11 متّهماً في عملية تهريب امتدّت لستّة أشهر، ونقلت 250 مسدساً و40 بندقية رشاش إلى الضفة الغربية. وبحسب التحقيق، تقاضى منفّذ عملية التهريب ثمانية عشر ألف دولار عن كلّ عملية، في حين تقاضى المسؤول عن شراء الأسلحة وتأمينها (والذي غالباً ما يكون تاجراً) حوالي أربعة آلاف دولار. وتتنوّع الأسلحة التي يتمّ تهريبها ما بين البنادق المتنوّعة (أشهرها الكلاشينكوف والـM-16) والمسدّسات والقنابل وبعض مواد تصنيع المتفجّرات والرصاص وأمشطة الذخيرة، في حين يتمّ تصنيع وتداول الخرطوش و«الكارلو» وبنادق الصيد محلياً. إلّا أن النوعيات الأخرى من بندقية «M4» وطراز «تافور»، والرشّاشات من طرازَي «نيغيف» و«ماغ»، والعبوات الناسفة، غالباً ما تأتي من سرقات أو صفقات أو تسريبات المستودعات الإسرائيلية، حيث يسهّل الاحتلال تداولها بهدف نشر العنف وتوسيع رقعة الجريمة بين الفلسطينيين.
ويتزايد الطلب على السلاح الفردي بصورة لافتة في الضفة الغربية نظراً إلى عدم استقرار الوضع السياسي؛ إذ تسعى العائلات الفلسطينية والتجار ورجال الأعمال والمؤسّسات وحتى المسؤولون في السلطة إلى تسليح الدوائر المحيطة بهم، حمايةً لمصالحهم وترقّباً لأيّ تغيّرات راديكالية في السلطة الفلسطينية. ولذلك، يذكي جزء كبير من هذا السلاح الخلافات العائلية، إلّا أن بعضه يجد سبيله إلى أيدي المقاومين والمجموعات المسلّحة ومنفّذي العمليات الفدائية. وقد أَظهر تحقيق أمني أن السلاح الرشاش الذي استخدمه الشهيد ضياء حمارشة في عملية الخضيرة المتزامنة مع قمة النقب، ليس سلاحاً إسرائيلياً ولا يحمل رقماً محدّداً، وإنّما هو مُهرّب إمّا من مصر أو الأردن، في فترة غير معروفة. ولا توجد أرقام دقيقة يمكن الاستناد إليها في ما يتعلّق بحجم الظاهرة، باستثناء التقديرات الصهيونية. في عام 2022، أحبطت الشرطة والجيش، بمساعدة «الشاباك»، عشرات محاولات التهريب من الحدود الأردنية، وصادرت 480 قطعة سلاح. وخلال الفترة من عام 2021 حتى بداية عام 2023، شهدت الحدود 98 محاولة تهريب، من بينها 35 حالة تهريب من الأردن وحدها، بحسب «معهد واشنطن». إلّا أن هذه المصادر لا يمكن التعامل معها بموثوقية، لأن الاحتلال، الذي يسعى لإغراق الفلسطينيين بالسلاح بما يخدم أهدافه السياسية والأمنية، ينتفع من تضخيم الظاهرة بهدف إبقاء حربه ضدّ الشعب الفلسطيني مفتوحة، ونيل التزامات أكبر من السلطة في مجال «التنسيق الأمني»، وتبرير التسليح المكثَّف للمستوطنين في ظلّ ارتفاع الطلبات الإسرائيلية للحصول على تراخيص الأسلحة بنسبة 400% خلال العامَين الأخيرَين.
يَمثل المهرّبون الأردنيون أمام محكمة أمن الدولة، ويحاكَمون بموجب قانون منع الإرهاب، بالنظر إلى أن جزءاً من «الجرائم» المرتكَبة وقعت على الأراضي الأردنية، وهو ما يعني توافر الأسباب القانونية لمحاكمتهم أمام الجهات المُختصّة. وبحسب رئيس محكمة أمن الدولة السابق، المحامي فواز البقور، فإن التهم التي يواجهها العدوان «قد تصل أحكامها إلى 20 عاماً في حالة الإدانة»، إلّا أن متوسّط الأحكام التي صدرت في الحوادث السابقة راوحت ما بين 5 و8 سنوات بحسب نوعية الأسلحة وطريقة تهريبها وعدد المتورّطين والعمليات السابقة. ويزعم بيان «الشاباك» أن العدوان استخدم جواز سفره الدبلوماسي 12 مرّة منذ عام 2022 لتهريب سلع مختلفة، بما في ذلك «الطيور والحمام والسجائر الإلكترونية والذهب»، إلّا أنه بدأ بالتهريب مطلع عام 2023. ووصف وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، قرار تسليم النائب بأنه «خطأ استراتيجي وأخلاقي»، في حين يدور الحديث عن صفقة لا يعلم أحد ماذا ستكلّف الأردن، وسط مطالبة الأوساط الصهيونية اليمينية بأن يكون هذا الثمن تخلّي الأردن عن أدوار محدَّدة في الوصاية الهاشمية على المقدّسات الدينية في القدس. وعلى أيّ حال، تتجاوز خطورة هذه العملية الصعيدَين الدبلوماسي أو الأمني، كونها تستبطن مؤشّرات إلى تعاظم المزاج الداعم للمقاومة والراغب في مساندتها بأيّ طريقة. وإذا كنّا لا نعلم إلّا عن 35 عملية فدائية نوعية نُفّذت في عام 2022، وأسفرت عن مقتل 31 إسرائيلياً وإصابة 128 آخرين، في حين يبلغ عدد العمليات التي تمّ تنفيذها فعلياً 1933، فإنه على الأقل مقابل كلّ واقعة إحباط، من المحتمل أن تكون هناك واقعة تهريب ناجحة.