بعد الغزو الأميركي للعراق، في عام 2003، رأى أفرايم هاليفي، الرئيس الأسبق لـ«الموساد» (1998-2002)، أن الولايات المتحدة لم «تَعُد قوّة وراء البحار»، وتحوّلت، نتيجة احتلال 140,000 من جنودها لبلاد الرافدَين، من قوّة خارجية مهيمنة على الشرق الأوسط إلى «قوّة شرق أوسطية». هاليفي كان يتوجّه إلى صنّاع القرار الإسرائيليين، للتشديد على ضرورة أن يضبط «الوكيل»، أي إسرائيل، أجندته وحركته تحت سقف أجندة «الأصيل»، أي الولايات المتحدة، الذي قرّر اجتياح الإقليم وإعادة صياغته بالاعتماد على قوّة جيشه أوّلاً. مراجعة التطوّرات التي شهدتها السنوات الـ 20 التي تلت هذا الكلام، وآخرها المصالحة الإيرانية - السعودية برعاية صينية، تسمح بالقول إن الولايات المتحدة عادت قوّة وراء البحار بالنسبة إلى منطقتنا، وإن نفوذها فيها ينحسر بوتيرة متسارعة. يرتبط هذا الانحسار، في الواقع، بمسار الانحدار العام للهيمنة الأميركية على صعيد دولي، والذي يترجَم تراجعاً في القدرة على التحكّم بخيارات الحلفاء الاستراتيجية، وبالسياسات التي يتّبعونها بناءً عليها. فقد ارتكزت هذه الهيمنة تاريخياً، إضافة إلى التفوّق العسكري الأميركي النوعي على المسرح العالمي، إلى شبكة تحالفات واسعة تأسّست على موافقة العديد من بلدان الكوكب على مبدأ مقايضة الحماية بالولاء. لم تلتزم بلدان الخليج وحدها بهذا المبدأ، بل كذلك الكثير من دول أوروبا وأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. الجديد الذي كشفته الحرب في أوكرانيا، بالنسبة إلى دول الجنوب أساساً، هو أن هذا المبدأ لم يَعُد ساري المفعول في علاقاتها مع واشنطن. فرفْض معظمها فرْض عقوبات على روسيا، وتنسيق بعضها، كبلدان الخليج مثلاً، سياساتها في ميدان الطاقة معها، أكّدا أن هامش استقلاليتها حيال «الراعي» الأميركي يتوسّع باطّراد. غير أن توجُّه هذه البلدان إلى تعزيز تعاونها في مختلف الميادين مع الصين، وإفساحها المجال أمام صيرورة الأخيرة لاعباً سياسياً في الإقليم يسهم في حلّ نزاعاته، هو مؤشّر إلى استعدادها للتناقض مع أولوية استراتيجية للولايات المتحدة، وهي احتواء بكين ومنْع تمدُّد نفوذها إلى مناطق حيوية كانت تُصنَّف في ما مضى دائرة نفوذ أميركي حصري.لا تستطيع واشنطن النجاح في احتواء صعود القوّة الصينية عبر الاستناد فقط إلى الانتشار عسكريّاً في محاذاتها، وإقامة مجموعة من الأحلاف مع بعض دول جوارها، وحتى السعي إلى استنزافها عبر سباق التسلّح. استنساخ تجربة احتواء الاتحاد السوفياتي لن يفيد في مقابل قوّة شاملة كالصين، اقتصادية وتجارية وتكنولوجية وعلمية، إضافة إلى قدراتها العسكرية ونفوذها السياسي المتنامي. المطلوب ببساطة هو الحدّ من تعاظم علاقات بكين التجارية - وهي لديها شركاء تجاريون أكثر من الولايات المتحدة -، والاقتصادية، ومن تعاونها في المجالات العلمية والتكنولوجية، وخاصة تلك «الحسّاسة»، كتكنولوجيا الاتصالات، مع بقيّة بلدان المعمورة، وفي مقدّمهم بلدان الجنوب. المشكلة بالنسبة إلى صنّاع القرار الأميركيين، هي أنهم أصبحوا عاجزين عن إلزام هذه البلدان، بما فيها تلك الخليجية الحليفة، بوقف شراكاتها المتعدّدة الأبعاد مع بكين. لا تكفي «أزمة الثقة» بين الطرفَين، التي يردّ البعض بدايتها إلى سقوط نظامَي بن علي ومبارك في 2011، بعد «تخلّي» واشنطن عنهما، لتفسير ميْل الدول الخليجية للبحث عن شراكات موازية لتلك التي تجمعها بالولايات المتحدة والتمايز التدريجي عن بعض مواقفها وسياساتها، وصولاً إلى التناقض العلني معها.
ارتبط هذا الميل، في الحقيقة، بإدراك هذه الدول، وغيرها من حلفاء الولايات المتحدة، لتراجع قدرات هذه الأخيرة، وعدم استطاعتها تأمين «الحماية» الموعودة في مقابل ولاء دام لعقود طويلة. الأطراف التي قاومت مشروع الهيمنة الأميركية، دولاً وحركات شعبية، اكتشفت بالتجربة الملموسة حدود القوّة الأميركية، وإمكانية فرْض تراجعات عليها من خلال مواجهة عنيدة ومدروسة وطويلة الأمد. وتلك التي اندرجت في إطار هذا المشروع، توصّلت إلى اقتناع بأنه لن يتمكّن من تحقيق غاياته، وأن الأولويات الاستراتيجية المستجدّة لواشنطن ستدفعها إلى «التخفّف من أعباء الشرق الأوسط»، بما فيه من أعباء حلفائها العرب، والتركيز على التصدّي للصين وروسيا. أيقن هؤلاء لحظة قصف منشأة «أرامكو» في أبقيق، أن مئات مليارات الدولارات التي أُنفقت على صفقات السلاح، وعقوداً من العمل في إطار الاستراتيجية العامّة للولايات المتحدة كلّها ضاعت هباء، وأن الأخيرة، حتى في عهد ترامب، لم تَعُد حليفاً يُتّكل عليه.
وفّرت الحرب الأوكرانية فرصة انتهزتها الأطراف الخليجية للعمل وفقاً لأجندتها والتقاطع مع روسيا على حساب الحليف الأميركي. ولا شكّ في أن احتدام هذه الحرب والتورّط الأميركي والغربي المتزايد فيها، هما من بين العوامل التي شجّعت الأطراف المذكورة من جهة، والصين من جهة أخرى على إحداث نقلة نوعيّة في علاقاتها البينيّة، وحفّزتها على القبول بوساطة صينية لتطبيع العلاقات بين إحداها، أي السعودية، وإيران. بالنسبة إلى الصين، فإن الالتفاف على استراتيجية الاحتواء الأميركية يقتضي إنجاح ضمّ دول المنطقة إلى مشروع «الحزام والطريق». بكلام آخر، فإن تمكُّن الصين من مواجهة استراتيجية الاحتواء الأميركية منوط بقدرتها ليس فقط على تنمية علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع بلدان منطقتنا، الحيوية بالنسبة إليها، وخاصّة في مجال الطاقة، بل كذلك في إيجاد حلول للنزاعات بين دولها تضمن الاستقرار الضروري لمصالح جميع هذه الأطراف. منطق الهيمنة الذي حكم سياسات القوّة العاتية الأميركية عجز عن تأمين شروط الاستقرار، ويبدو أن دول الإقليم أضحت مقتنعة بأن منطق الشراكة القائم على النديّة، الذي تدافع الصين عنه، قد يسمح بالوصول إلى هذه الغاية.