تتسارع خُطى التطبيع غير العلَني بين السعودية وإسرائيل. إلّا أن الأخيرة، التي ملّت دور «العشيقة السرّية»، باتت تريد «زواجاً علنياً»، إنْ أمكن العام الحالي، ليتسنّى بناء ما تسعى إليه من حلف استراتيجي مع عدد من دول الخليج في مواجهة إيران. وبلغت الأمور نقطة صارت الصحافة الإسرائيلية معها تسرّب شروطاً محدّدة وضعها وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، لإقامة علاقات رسمية مع تل أبيب، نتجت ممّا يبدو أنها مباحثات مكثّفة في هذا الشأن تقوم بها وفود إسرائيلية وأميركية تزور الرياض بوتيرة مضاعَفة عمّا كان يحدث منذ أن بدأ التطبيع السعودي غير المعلَن، بعد توقيع «اتّفاقات أبراهام» بين إسرائيل وعدد من الدول العربية ابتداءً من أيلول 2020. غير أن إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، لا تشارك في تلك الجهود التي ينخرط فيها من الجانب الأميركي مسؤولون في إدارات جمهورية سابقة.مع مطلع هذا العام، وتشكيل حكومة نتنياهو، قالت إسرائيل إنها تريد أن يكون عام 2023 هو عام التطبيع مع الرياض، على رغم عدم بروز أيّ علامات على أن المملكة غيّرت موقفها من التطبيع العلَني، منذ أن رفضت الانضمام بنفسها إلى «اتّفاقات أبراهام» التي يعتقد الإسرائيليون بأنها ما كانت لتتمّ لولا وجود غطاء سعودي للأنظمة التي دخلت فيها. ومع ذلك، يبقى الموقف السعودي من التطبيع بالنسبة إلى المملكة، مسألة توقيت، لا مسألة مبدأ. وفي هذا السياق، ثمّة إشارات سعودية برزت مفادها أن التطبيع الرسمي ليس وشيكاً، ومنها تصريحات وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية، عادل الجبير، والتي تزامنت مع «مونديال قطر»، حين لاحظ أن أكثر من 80% من العرب معارضون للتطبيع، وأن المسألة تحتاج إلى مزيد من الوقت.
لكن إذا صحّت التسريبات التي نشرها الصحافي الإسرائيلي، أنريكي تسيمرمان، الذي زار الرياض، في موقع «آي 24 نيوز» الإسرائيلي، عن شروط وضعها ابن سلمان للتطبيع مع العدو، فإنّنا قد نكون أمام تغيّر كبير في الموقف السعودي. وتتضمّن هذه الشروط، بحسب التسريب الإسرائيلي، تعهّداً بأن لا تضمّ إسرائيل أراضيَ في الضفة الغربية، وأن لا يتمّ تغيير السياسة الإسرائيلية في شأن المسجد الأقصى، وأن تُوافق تل أبيب على إجراءات من شأنها تحسين ظروف حياة الفلسطينيين، وأن تقنع الولايات المتحدة باعتبار الرياض حليفاً رئيساً وبيعها أسلحة متطوّرة. ويعني ما تَقدّم، عملياً، التخلّي عن «مبادرة السلام العربية» التي تشترط لتطبيع العلاقات مع الكيان، إقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، وانسحاب إسرائيل من كامل الأراضي العربية المحتلّة منذ عام 1967.
الصحافي نفسه يقول إن التطبيع مع الرياض صار أقرب، مستدلّاً بوجود جالية إسرائيلية في الرياض تتألّف من مئات رجال الأعمال الإسرائيليين الذين يعملون في المملكة، وتُتاح لهم ممارسة شعائرهم الدينية بكلّ حرّية. وهو ليس وحيداً في ذلك التقييم، إذ يقول جون حنّا، الذي كان مستشاراً للأمن القومي لنائب الرئيس ديك تشيني أيّام إدارة جورج بوش الابن، وقاد إلى الرياض قبل أسبوع وفداً أميركياً - إسرائيلياً من «المعهد اليهودي للأمن القومي الأميركي»، إنه خرج من لقاء مع ابن سلمان «بانطباع قوي جدّاً بأن القيادة السياسية والأمنية العليا في السعودية مستعدّة للتطبيع مع إسرائيل». كذلك، يبدي جيسون غرينبلات، الذي كان مبعوثاً للرئيس السابق دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، «تفاؤله» بإقامة علاقات رسمية بين الرياض وتل أبيب اللتَين زارهما أخيراً، معتبراً أنه إذا كان بإمكان أحد تحقيق هذا، فهما ابن سلمان ونتنياهو.
هذه ليست المرّة الأولى التي تحاول فيها إسرائيل استدراج السعودية إلى فخّ التطبيع العلَني


لكن هذه ليست المرّة الأولى التي تحاول فيها إسرائيل استدراج السعودية إلى فخّ التطبيع العلَني. ففي نهاية 2020، أي بعد أشهر قليلة من توقيع الإمارات والبحرين «اتّفاقات أبراهام»، حين كان الجميع يتوقّع أن تكون السعودية هي التالية، خرج الرئيس الأسبق للاستخبارات العامّة السعودية، تركي الفيصل، بهجوم ناري على الدولة العبرية، متّهماً إيّاها بـ«النفاق»، وقائلاً إنها «تقدّم نفسها على أنها دولة صغيرة، تعاني من تهديد وجودي، ومحاطَة بقتَلة متعطّشين للدماء يرغبون في القضاء عليها، فيما هي تستمرّ في الوقت نفسه في احتلال الأراضي الفلسطينية، واحتجاز الفلسطينيين في معسكرات، وسرقة أراضيهم، وقصف الدول العربية، وتمتلك ترسانة نووية». وتركي، الذي باغت حديثه وزير الخارجية الإسرائيلي في ذلك الحين، غابي أشكنازي، الذي كان حاضراً في المؤتمر، هو من أولى الشخصيات السعودية التي التقت علَناً بإسرائيليين، إلى جانب الضابط السابق أنور عشقي. وهو مقرّب من الملك سلمان وفاعل في النظام الحالي الذي يتولّى فيه عدد من أبنائه مناصب رفيعة المستوى، أهمّهم نجله عبد العزيز الذي يتولّى وزارة الرياضة. ولكنه بخبرته الطويلة في السياسة، ومعرفته بالمجتمع السعودي المتجذّر فيه رفض التطبيع، يدرك الآثار التي قد تُرتّبها إقامة علاقات رسمية مع العدو على مستقبل النظام في المملكة.
لكنّ الرهان الأساسي للإسرائيليين، ومعهم الأميركيون، يبقى عملية التحوّل التي يقودها ابن سلمان للمجتمع السعودي. وهي عملية لا تحظى، من وُجهة نظر جون حنّا الذي كتب بعد عودته من المملكة أخيراً مقالاً نشرته مجلّة «فورين بوليسي»، بـ«التقدير» الكافي لدى الإدارة والكونغرس والإعلام والرأي العام الغربيَّين، فقط لأنها من بنات أفكار وليّ العهد المكروه أميركياً، على رغم الفوائد الكبيرة التي قد تجنيها الولايات المتحدة منها. إذ إن هذا التحوّل يشمل إعادة هيكلة الاقتصاد لتنويع مصادر الدخل، من خلال إنفاق مليارات الدولارات على إقامة صناعات جديدة ومشاريع سياحة ونقل وطاقة متجدّدة من الصفر تقريباً، وكذلك إعطاء المرأة حقوقها بما يشمل حق القيادة والعمل والسفر، وإدخال السينما والعروض الفنّية وحفلات الروك ومدن الملاهي ومهرجانات الأوبرا إلى المملكة، وهو ما يندرج كلّه ضمن «رؤية 2030».
هذه التحوّلات تنسجم، من وجهة نظر الجمهوريين في الولايات المتحدة، مع الحملة الضارية التي يشنّها ابن سلمان ضدّ مُعارضيه، ولا سيما منهم رجال الدين، الذين يبدو أن الإعدام ينتظر بعضهم، وفق ما كشفه ناصر القرني، نجل الداعية السعودي السجين، عوض القرني، عبر وثائق محكمة نشرتها صحيفة «الغارديان» البريطانية قبل أيام، وتفيد بأن الادّعاء السعودي طلب الإعدام لوالده بتهم استخدام «تويتر» و«واتس آب» في التعبير عن معارضته. وتُمثّل التزكية الجمهورية الضمنية لتلك الحملة تراجعاً واضحاً عمّا كانت قد أدلت به كوندوليزا رايس خلال محاضرة في الجامعة الأميركية في القاهرة عام 2005، حين قالت إن بلادها «سعت لمدّة 60 عاماً من أجل تحقيق الاستقرار على حساب الديموقراطية في الشرق الأوسط، لكنها لم تحقّق أيّاً منهما. والآن تنتهج أسلوباً آخر، يتمثّل في دعم التطلّعات الديموقراطية لكلّ الشعوب»، مشيرةً صراحة إلى أن إدارة جورج بوش تفضّل الإسلاميين على الأنظمة القمعية. وكان ظَهر ذلك التراجع الذي يعني، عملياً، رغبة لدى المنظّرين له في العودة إلى دعم الأنظمة القمعية وتجاهُل «الديموقراطية»، ابتداءً، في مذكّرات جارد كوشنير التي أقرّ فيها بدعم حملة القمع التي قام بها ابن سلمان، وبدأت مع الانقلاب الذي تسلّم خلاله ولاية العهد عام 2017 باعتقال بعض أبرز الدعاة، ومنهم القرني نفسه والداعية سلمان العودة.