لا تكاد الكويت تفارق أزمة بين الحكومة ومجلس الأمّة، حتى تقع في أخرى، وكأن ثمّة مَن يعمل على أن تظلّ هذه الدولة تتخبّط في أزماتها. والمعضلة الجديدة التي بدأت قبل أيّام بين السلطتَين، أشعل فتيلَها مشروعُ قانون يقضي بشراء مديونيات المواطنين لدى المصارف، وهو مشروعٌ يَعرف مُقدّموه، وحتى المواطنون الذين من المفترض أن يستفيدوا منه، أنه لا يمكن أن يمرّ نظراً إلى كلفته الباهظة على مالية الدولة، وإخلاله بمبدأ المساواة بين المواطنين، ولأنه يضرب في الصميم أيّ محاولة للنهوض بالكويت تنموياً لتلحق بجيرانها. ولذا، فإن البحث جارٍ عن الأسباب الحقيقية لاستلال ذلك المشروع من زمان ماضٍ، وطرْحه في هذا التوقيت، حيث يُرجَّح أن تكون لنوّاب المعارضة المسيطرين على مجلس الأمّة مطالب أخرى يريدون المساومة عليها، تتعلّق بالحصول على مكاسب من الحكومة لإرضاء قواعدهم الانتخابية، في الوقت الذي يحقّق فيه البلد وفرة مالية ناجمة عن ارتفاع أسعار النفط
لم يَدُم الوفاق طويلاً بين الحكومة الكويتية ومجلس الأمّة، في أعقاب المصالحة التي تَبعت الانتخابات التشريعية الأخيرة (29 أيلول الماضي)، والتي حقّقت فيها المعارضة فوزاً كبيراً، وجاءت بالمعارض العتيق أحمد السعدون رئيساً للمجلس، على أساس فتْح عهد جديد من التعاون بين السلطتَين التنفيذية والتشريعية. على أن التطوّرات اللاحقة أثبتت مرّة أخرى أن ذلك التعاون أكثر صعوبة من المأمول، ما يهدّد بضياع فرصة منحتْها القيادة السياسية في بداية الصيف الماضي للتوفيق بين السلطتَين تحت طائلة اتّخاذ الإجراءات اللازمة، والذي فُسّر في حينه على أنه تهديد بتعليق الحياة البرلمانية في البلاد. ونجمت الأزمة الجديدة عن طرْح نواب المعارضة مشروع قانون في مجلس الأمّة حول شراء مديونيات المواطنين لدى البنوك وشركات التمويل والاستثمار، وإعادة جدولتها على آجال أطول بعد إسقاط الفوائد، وهي عملية مكلفة للمال العام، ومخلّة بمبدأ العدالة والمساواة، باعتبار أن ليس كلّ المواطنين مقترِضين، ولا المقترِضين منهم متساوون في حجم المديونيات. لكن الاعتقاد السائد في الكويت هو أن نواب المعارضة يدركون تماماً أن المشروع لن يمرّ تحت أيّ ظرف من الظروف، كما يدرك ذلك المقترِضون أنفسهم، وفق ما أفاد به الكثيرون منهم على وسائل التواصل الاجتماعي. ولذا، يُرجَّح أن يكون الغرض الحقيقي من الطرح تحقيق مطالب أخرى تتعلّق بالحصول على تقديمات تستفيد منها قواعدهم الانتخابية في ضوء الوفرة المالية المحقَّقة بفضل ارتفاع أسعار النفط.
وبحسب بيانات بنك الكويت المركزي، يبلغ عدد الكويتيين الحاصلين على قروض أو تمويل شخصي لأغراض استهلاكية أو إسكانية 550 ألف مواطن (نصف الكويتيين)، فيما تصل قيمة هذه القروض إلى 14.7 مليار دينار (48.07 مليار دولار)، وتُعادل نسبة المتعثّرين عن السداد 2.3 في المئة. لكن في حال شراء الحكومة هذه المديونيات، سترتفع بشكل كبير نسبة المتعثِّر منها، ما يعني خسارة مليارات الدولارات. وردّت الحكومة، التي تَعتبر مجرّد طرح المشروع تأزيماً، على خطوة المعارضة، بالانسحاب من الجلسة النيابية التي كانت مخصَّصة لبحث المقترح الثلاثاء، والتغيّب عن جلسة أخرى في اليوم التالي. إلّا أنها أصدرت بياناً اعتُبر هادئاً وغير تصعيدي، برّرت فيه انسحابها بالقول إنه لم يتَح لها خلال اجتماعات اللجان النيابية التي ناقشت المشروع، استكمال تقديم رأيها الدستوري والمالي حياله، مشيرة إلى أن الحكومة طلبت من مجلس الأمّة إعادة التقارير الخاصة بالقانون إلى اللجان البرلمانية ذات العلاقة للوصول إلى حلول تحقّق الأهداف التي حرصت الحكومة على تضمينها في المشاريع الواردة في برنامج عملها.
شراء المديونيات يضرب في الصميم أيّ محاولة للنهوض بالكويت تنموياً لتَلحق بجيرانها


لكن أهمّ ما في هذه القضية، أنها تعيد تأجيج صراع قديم يتجدّد باستمرار بين فلسفتَين، إحداهما للنوّاب المنتخَبين وتقوم على إرضاء القواعد الانتخابية، والأخرى للحكومة ومِن ورائها القيادة السياسية التي ترى في مِثل هذه الممارسة زبائنية تضرب مفهوم التنمية التي يجب أن تقوم على أسس اقتصادية صحيحة، حتى تعطي ثمارها، كما يحصل في دول الخليج الأخرى مثل الإمارات وقطر والسعودية، حيث لا تواجِه القرارات التنموية معوّقات مِن مِثل التي يمثّلها مجلس الأمّة الكويتي. وفي المقابل، يتّهم النواب والكثير من المواطنين الحكومة بالفساد، مستشهدِين باستفادة طبقة التجّار من تلك المشاريع، واستحواذهم عليها عبر شركات كبرى، يتداخل فيها النفوذ السياسي بالتلزيم، نتيجة تحالف هذه الطبقة مع القيادة السياسية. وآخر الممارسات التي أخذها النواب على الحكومة، كما ورد في كلمة نارية للنائبة جنان بوشهري أمام المجلس، زيادة المعاشات الاستثنائية للوزراء ليصبح راتب الوزير 9 آلاف دينار (28 ألف دولار) وفق المادّة 80 من قانون التأمينات الاجتماعية، على رغم دعوة وليّ العهد، مشعل الأحمد الصباح، إلى إلغاء المادّة المذكورة. واتّهمت بوشهري الوزراء بالسعي إلى تحقيق مصالحهم الخاصة وعدم الاهتمام بمشكلات الوطن والمواطنين.
وعلى رغم اللهجة غير التصعيدية لبيان الحكومة، فإن الخيارات القليلة المتاحة أمام الفريقَين تفتح الأزمة على احتمالات تصعيدية، تتراوح بين استقالة حكومة أحمد النواف الصباح أو تعديلها، وبين أن تَرفع الحكومة نفسها كتاب عدم تعاون مع مجلس الأمّة، في ما قد يفضي إلى حلّ هذا الأخير وإجراء انتخابات جديدة، أو في الحالة القصوى إلى تعليق الحياة البرلمانية في البلاد. والجدير ذكره، هنا، أن الكويت أجرت انتخابات تشريعية مرّتَين في أقلّ من عامَين بسبب أزمات سياسية مماثلة، وأن وليّ العهد الذي ألقى الخطاب الأميري في 22 حزيران 2022، وأعلن فيه نيّته حلّ مجلس الأمّة (الأمر الذي حدث لاحقاً وتبعتْه انتخابات تشريعية)، كان قد لوّح باتّخاذ الإجراءات اللازمة إذا استمرّ عدم التعاون بين السلطتَين، في ما فُهم في حينه على أنه تهديد مبطّن بتعليق العمل ببعض مواد الدستور لتعطيل الحياة البرلمانية في البلاد.
في كلّ الأحوال، يؤذن هذا التصعيد بفترة من عدم الاستقرار السياسي، من المتوقّع أن تشهد استجوابات يتقدّم بها النواب للوزراء أو حتى رئيس الوزراء، وهو ما بدأت تَظهر معالمه مع تقديم النائبة بوشهري نفسها استجواباً لوزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء براك الشيتان، ومع توقيع 45 نائباً من أصل 50 منتخَبين ممَّن أَغضبهم انسحاب الحكومة باعتباره تعطيلاً لدور المجلس، بياناً هدّدوا فيه باستجواب رئيس الحكومة وجعْل الأخيرة تَلحق سابقاتها بسبب اقتراح شراء المديونيات. وفي نظر الكثير من الكويتيين، تكمن مشكلة الحكومة الحالية والحكومات السابقة في أن معظم داعميها هم من فئة مُحتكري الثروة وأصحاب الوكالات والمقاولين، ممّن لا يعنيهم سوى تحقيق مصالحهم الخاصة، الأمر الذي سيعيد البلاد إلى مربّع الأزمة، بعد أن استبشر الكويتيون خيراً بأن تفتح المصالحة التي أعقبتْها فترةُ انسجام بين السلطتين، الطريق أمام الكويت للحاق بركب دول الخليج في التطوّر العمراني والتنمية.