عندما رفعت شركات تابعة لـ«صندوق الاستثمارات العامّة» السعودي (الصندوق السيادي)، الذي يأتمر مباشرة بأوامر محمد بن سلمان، دعوى مدنية في كندا ضدّ سعد الجبري، بتهمة اختلاس نحو 3.7 مليارات دولار، كان الهدف الحقيقي للدعوى، محمد بن نايف. فالجبري الذي مَثّل اليد اليمنى لابن نايف قبل أن يفرّ من المملكة بعد اعتقال «سيّده» في عام 2017، هو الرديف الطليق لوليّ العهد السابق، والذي يعتبره ابن سلمان أخطر تهديد له، ولكنه لا يستطيع محاكمته علناً في المملكة، لأن محاكمة كهذه قد تُحرج الأميركيين - الذين ما زالوا يؤكدون أن ابن نايف كان شريكهم وصديقهم الوفي الذي «أنقذ» حياة الكثير من مواطنيهم - فتُخرجهم، ما يمكن أن يحوّلها بشكل ما، إلى محاكمة للسجّان نفسه. هي، إذن، معركة قضائية قاسية للجانبين، والرهانات فيها مرتفعة جدّاً، إلى الحدّ الذي يمكن معه القول إن ابن سلمان يريدها أن تكون الشوط الأخير في مسألة خلافته أباه. فهو يعتقد أن نيل حُكم لمصلحته ضدّ الجبري (وضمناً ابن نايف) من محكمة أونتاريو، يُمدّه بما يكفي من المصداقية لمحاكمة كلّ العهد الذي كان فيه ابن نايف لاعباً مركزياً، أي عهد الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، الذي يضمّ منافسين آخرين له، بِمَن فيهم متعب بن عبد الله وأحمد بن عبد العزيز. والأخير سجين قصر، يرفض الخروج منه بشروط ابن سلمان، بينما الأوّل من سجناء «الريتز»، وأُطلق سراحه بموجب تسوية مع ولي العهد، قد تكون أخرجته من المنافسة.
وسيلة الضغط الرئيسة على الجبري، ابنه وابنته المحتجزان في سجون ابن سلمان (من الويب)

في بداية تموز الماضي، وصلت القضية إلى مراحل حسّاسة، بعد أن أقرّ الجبري بنيله مكافآت تبلغ 385 مليون دولار في الفترة من 2008 إلى 2017 (يُعدّ هذا مبلغاً ضخماً بالنسبة إلى موظّف، حتى بالمقاييس السعودية)، وذلك إثر قرار المحكمة تجميد أمواله حول العالم، على رغم أنه سعى إلى الدفاع عن نفسه بأن الحصول على مثل هذه المكافآت وارد في المملكة. واستطاع «الذباب الإلكتروني» الذي يديره مساعد ابن سلمان، سعود القحطاني، استخدام هذه الواقعة في شنّ حملة ضارية على وسائل التواصل الاجتماعي، نُعت خلالها الجبري بـ«الخائن والفاسد»، وخاصة أن اعترافات لصهره، سالم المزيني، الذي اعتُقل في دبي في عام 2017 ونُقل إلى السعودية، أشارت إلى تورّطه في الفساد، وهو ما ردّ عليه الجبري بالقول إن هذه الاعترافات انتُزعت تحت التعذيب، الذي تضمّن إجبار المزيني على السير على يديه ورجليه والنباح كالكلب، وجلده عن نفسه وعن والد زوجته، ووضعه في أوضاع مجهدة. لكن تبقى وسيلة الضغط الرئيسة على الجبري، أن ابنه وابنته محتجزان في سجون ابن سلمان، في ما يمثّل مادة «دسمة» للمساومة الرئيسة إذا ما تَقرّر الوصول إلى تسوية خارج المحكمة. أمّا نقطة القوة المقابِلة في يد الجبري، فهي مخزون المعلومات الهائل الذي يمتلكه، والذي يمسّ مباشرة الأمن القومي الأميركي، باعتبار أنه كان شريكاً مباشراً من موقعه كوكيل لوزارة الداخلية، في ما تُسمّيه واشنطن «مكافحة الإرهاب»، والذي يعني، في الحقيقة، دعماً خفياً للإرهاب بتمويل سعودي وقرار أميركي، وتحديداً في العراق، كما يقول معارضون سعوديون، مؤكدين أن الجبري ليس متروكاً وشأنه في كندا، إذ إنه يعقد لقاءات دورية مع أعضاء الكونغرس، وأخرى غير علنية مع الاستخبارات الأميركية والكندية. ولأن أولوية الجبري هي الحصول على حرّية ابنَيه، فقد أصبح إطلاق سراحهما محطّ اهتمام الإدارة الأميركية والكونغرس، دون غيرهما من المعتقلين السياسيين في السجون السعودية والذين يُعدّون بالمئات، ويشملون أفراداً كباراً من الأسرة الحاكمة، وناشطي حقوق إنسان، ونساء، ورجال دين يصل عدد أتباع الواحد منهم على «تويتر» إلى ما يزيد عن عشرين مليوناً، وأشخاصاً عاديين. وفي هذا السياق، دخل أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي، من الحزبَين، على الخطّ، بتوجيه عريضة تطلب من بايدن الضغط على ابن سلمان لإطلاق سراح ابنَي الجبري.
يطالب أعضاء في مجلس الشيوخ بايدن بالضغط على ابن سلمان لإطلاق سراح ابنَي الجبري


بناءً عليه، لا يبدو أن أمام الجبري سوى خيارَين: الأوّل، الهروب إلى الأمام، والكشف عن كلّ الأوراق التي تدين خصمه، حتى تلك المتضمّنة معلومات حسّاسة تمسّ الأمن القومي الأميركي، علماً أن بعض قضايا التعاون الأمني السرّي بين الولايات المتحدة والسعودية ما زالت قائمة إلى الآن، وأن بعضها الآخر قد يفجّر فضائح تتعلّق بحقوق الإنسان التي جعلتها إدارة بايدن شعاراً أوّل لها في الشرق الأوسط. فالمليارات التي تتّهم الدعوى الجبري، وعَبره ابن نايف، باختلاسها، خُصّصت لتمويل جماعات يعرفها الجبري تماماً، ضمن إنفاق كان الملك عبد الله قد فوّض أمره كلّياً إلى ابن نايف وحده من دون أيّ آلية للمراجعة، بالنظر إلى حساسية المسألة. أمّا الخيار الثاني فهو الدخول في تسوية للقضية من خارج المحكمة، وهو ما يُفترض أن تميل إليه كلّ الأطراف، شرط تحقيق ما تصبو إليه. وفي هذا الإطار، سيعمل ابن سلمان على أن تَحسم هذه التسوية موضوع وراثته العرش، أي أن لا تشمل الجبري فقط، وإنما أيضاً وليّ العهد السابق، وبالتالي يكون قد نال تغطية أميركية لموضوع الوراثة.
المؤكّد هو أن الإدارة الأميركية لن تسمح، في حالٍ من الأحوال، بكشف معلومات تمسّ الأمن القومي الأميركي. وبحسب معارضين سعوديين، فإن واشنطن بدأت مسعًى مع السلطات الكندية في هذا الخصوص بشكل رسمي، بعد أن رفضت القاضية الكندية التي تتولّى المحاكمة، كوري جيلمور، الاستجابة لأيّ طلبات أميركية أو سعودية، قائلة إنها لا تعترف بشيء اسمه «أسرار»، وإن من حق المتقاضين تقديم كلّ أوراقهم، ولا تقبل بأن يتّصل بها أحد ويطلب إقفال القضية. أكثر من ذلك، قد تتسبّب القضية بأزمة دبلوماسية بين الولايات المتحدة وكندا، إذ إن تدخّل واشنطن مع حكومة جاستن ترودو للمطالبة بإقفال قضية منظورة أمام المحاكم، يثير بلا شكّ حفيظة القضاة الكنديين الذين يَعتبرون أنفسهم مستقلّين، كما قد تستغلّه المعارضة الكندية المتربّصة برئيس الوزراء لتسجيل نقاط ضدّه، شعبياً. أيضاً، قد تجد كندا نفسها في ورطة مع السعودية، على اعتبار أن أيّ تحرّك ضدّ مصلحة ابن سلمان، سيدفع بالأخير إلى الانتقام منها باستخدام المصالح التي تربطها بالمملكة، كما فعل قبل سنوات عندما قرّر سحب سفير المملكة في أوتاوا، وطرد السفير الكندي في الرياض، وتجميد العلاقات التجارية، ونقل الطلاب المبتعثين، وأيضاً المرضى السعوديين، من كندا إلى دول أخرى، ووقْف الرحلات الجوية، ومقاطعة المنتجات الكندية، وكلّ ما تَقدّم بسبب بيان لوزارة الخارجية في أوتاوا يطالب بإطلاق سراح سجناء الرأي السعوديين.