بقرارها تعليق صفقات السلاح التي أبرمتها إدارة دونالد ترامب مع السعودية والإمارات، تُوجِّه الإدارة الأميركية الجديدة رسالة مفادها بأن أسلوب «اللعب على المكشوف»، الذي ساد في المرحلة السابقة، انتهى إلى غير رجعة. لكنها إشارات لا يمكن، بأيّ حال من الأحوال، البناء عليها لاستشراف «انقلاب» مرتقب في المشهد، إذ هي أقرب ما تكون إلى تفعيل سياسة «القيادة من الخلف»، لغاية تبلور الشكل النهائي لتحالفات واشنطن والتنازلات المبتغاة من شركائها الذين تعتزم استشارتهم في كلّ شاردةٍ وواردة تخصّ الإقليم، فضلاً عن ملفّاتها العالقة، وفي مقدّمها الحرب المتواصلة على اليمن.
افتتحت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، مسار تقييم آفاق العلاقات مع حلفائها الخليجيين القلقِين إزاء المتغيّرات التي يمكن أن تطرأ على سياسات واشنطن في المنطقة. مسارٌ أطلقته بُعيد قرارها تعليق صفقات السلاح «مؤقّتاً» للسعودية والإمارات، وهي خطوة يُحتمل أن تفتح الباب أمام إلغائها، خصوصاً أن البيت الأبيض وضع وقف المشاركة الأميركية في الحرب على اليمن كمقدّمةٍ لإنهائها، من ضمن الأولويات التي يعتزم التركيز عليها في المرحلة الأولى من رئاسة بايدن. ولم يَزِد فشل الرياض وأبو ظبي في هذا المضمار، والغطاء الأميركي الذي ظلّل عمليّتهما العسكرية، طوال السنوات الستّ الماضية، الإدارة الجديدة إلّا تمسُّكاً بما صارت واشنطن الجديدة تعتبره إحراجاً متزايداً لا ينقصها في الوقت الراهن. فلا هرولة أبو ظبي إلى إتمام صفقة الـ«إف-35» في العشرين من الشهر الجاري - أي في اليوم ذاته لتنصيب بايدن -، بهدف وضع البيت الأبيض أمام الأمر الواقع وتحصيل غرامات لقاء أيّ إلغاء محتمل للصفقة، ولا مفاخرتها المستمرّة باتفاق التطبيع الذي لم تَجنِ من ورائه أيّ مكسب سوى «السلام مقابل السلام»، كما عاد وذكّر رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، قبل يومين، ولا حتى تقليلها من أهميّة الخطوة الأميركية «الروتينيّة»، من شأنها تجاوز واقع اعتزام الإدارة الجديدة تقييم العلاقات مع هذين البلدين، بما يتناسب مع أولوياتها في المنطقة. ويترافق ذلك مع حملةٍ بدأت باكراً في الكونغرس الأميركي الذي سعى، من دون نتيجة، لتعطيل صفقات الإدارة السابقة، فضلاً عن اشتغاله، منذ نهاية عام 2018، على مجموعة مشاريع قوانين تدين القيادة السعودية لدورها في جريمة اغتيال جمال خاشقجي، وحرب اليمن.
وعدت واشنطن بإجراء مراجعة للسياسات المتعلّقة بالتسليح، وبالتزاماتها في إطار «اتفاقات أبراهام»


ربط البيت الأبيض، أول من أمس، قرار تجميد صفقة بيع مقاتلات «إف-35» للإمارات وذخائر للسعودية، بضرورة التأكّد من أنها تلبّي الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة، بما في ذلك البحث عن طريقة لإنهاء الصراع في اليمن، واعداً بإجراء مراجعة للسياسات المتعلّقة بالتسليح، فضلاً عن تلك المرتبطة بالتزامات واشنطن في إطار «اتفاقات أبراهام». صحيح أن إدارة بايدن لم تتوانَ عن دعم اتفاقات التطبيع التي تريد البناء عليها، لكنّها لا تبدو متحمّسة إزاء «الهدايا» التي حصّلها المطّبعون لقاء «السلام» مع تل أبيب، لا سيّما أن وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، جدّد، في أعقاب قرار وزارة الخارجية، التزام الولايات المتحدة بالحفاظ على التفوّق العسكري النوعي لإسرائيل في المنطقة. وعلى رغم المؤشرات الكثيرة إلى احتمال إلغاء الصفقة مع الإمارات، إلّا أن سفير أبو ظبي في واشنطن، يوسف العتيبة، كان يتوقّع أصلاً، كما قال، أن تراجع الإدارة الجديدة السياسات الأميركية الحالية. وفي سلسلة تغريدات على «تويتر»، أكّد أن المعدّات التي ستحصل عليها بلاده ستسمح لها بالحفاظ على رادع قوي للعدوان، مضيفاً أنه في موازاة الحوار الجديد والتعاون الأمني، فإن بيع هذه المعدّات العسكرية يساعد على طمأنة الشركاء الإقليميين، كما أنه يمكّن أبو ظبي من تحمّل مزيد من العبء الإقليمي للأمن الجماعي. أمّا إسرائيل، التي يضحك مسؤولوها في سرّهم، فهوّنت من خطوة المراجعة التي تجريها إدارة بايدن لمبيعات السلاح، لا سيما للإمارات التي ارتبطت صفقتها بالتطبيع. في هذا الإطار، قال رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، في ردّه على أسئلة الصحافيين عن احتمال أن تتسبّب المراجعة بانتكاسة لجهود تل أبيب في إقامة علاقات مع أبو ظبي ودول عربية أخرى: «لا أعتقد. أرى أنّنا تجاوزنا نقطة اللاعودة»، مضيفاً: «يرى الجميع مزايا ضخمة هنا. إنه السلام مقابل السلام... أعتقد أنها ستمضي إلى الأمام».
وبعد يومين من تنصيب بايدن، أعلنت الإمارات أنها وقّعت خطابات الاتفاق الخاصة بالصفقة في آخر أيام رئاسة دونالد ترامب من أجل شراء ما يصل إلى 50 مقاتلة «إف-35» بقيمة 10.4 مليارات دولار، و18 طائرة مسيّرة مسلّحة من طراز «أم كيو 9 بي» بقيمة 2.97 مليار دولار، وذخائر مختلفة بقيمة 10 مليارات دولار، في صفقة بقيمة إجمالية تبلغ 23 مليار دولار، حصلت على تعهّد بإتمامها في اتفاق جانبي، عندما وافقت على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل في آب/ أغسطس الماضي. وتفيد وسائل الإعلام الأميركية، في هذا الإطار، بأنه بمجرّد توقيع خطابات الاتفاق في هذا الخصوص، يتمّ فرض غرامة مالية على أيّ طرف يتراجع عن الصفقة. وقد رحبت السناتورة الديموقراطية، إليزابيت وارن، بقرار إدارة بايدن تعليق هذه الصفقات لمراجعتها، لافتةً إلى أن السعودية والإمارات مسؤولتان عن استمرار المأساة الإنسانية في اليمن من خلال حملة قصف لا معنى لها منذ سنوات. في الإطار ذاته، جاء ردّ السناتور الديموقراطي، كريس ميرفي، إذ علّق على الخطوة الأميركية بالقول إن الأسلحة التي باعتها بلاده للرياض وأبو ظبي «استُخدمت لقتل أطفال المدارس، وجرى تحويلها إلى ميليشيات متطرّفة، فضلاً عن أنها غذّت سباق تسلّح خطيراً في الشرق الأوسط». وأضاف ميرفي أن التعليق هو الخطوة الصحيحة، وأن الوقت قد حان لإعادة النظر في علاقات واشنطن مع الحلفاء الخليجيين.