ليس ثمّة حاجة إلى كثيرِ جهدٍ لاستنباط موقف السعودية إزاء خطوة حليفتها الإماراتية إشهار علاقاتها مع إسرائيل. فما لا يقوله الرسميّون في العلن، يجاهر به إعلام البلاط وكتّابه صبحَ مساء، إلى درجةٍ أنّ منهم مَن أبى إلّا أن يمنِّن الفلسطينيين بـ»كرمٍ» مِن دون مقابل، بل إنّ المقابل كان «ابتزازاً» مورس ـــــ على مدى 70 عاماً ــــــ في حقّ دول الخليج «باسم قدسيّة القضيّة»، وفق ما تقرأه مقالات بسرديّات شبه موحّدة. لم يعد خافياً أنّ الصمت الملكي الموقّت وإحجام الرياض عن الترحيب ـــــ بخلاف المنامة ومسقط ـــــ مردّهما إلى عدم جاهزية المملكة بعد، للإعلان عن تطبيع كامل للعلاقات مع إسرائيل. لذا، فهيَ تتلطّى خلف حليفاتها (الآن الإمارات ومِن بعدها البحرين ولاحقاً عُمان)، في انتظار يومٍ «مناسب» يمكن فيه وليّ عهدها، محمد بن سلمان، أن يمضي في التحالف، ليرسِّخ عهد أجداده ووعدهم.الطريق الذي شقّته الإمارات «سيشكّل تياراً عربياً يتجاوز كل الإعاقات الفاشلة التي سادت لسبعين عاماً»، وسيسهم، بلا شكّ، في تعزيز التقارب السعودي ــــــ الإسرائيلي. وذلك اتجّاهٌ تعزّز بالفعل في السنوات الأخيرة، في ظلّ تحالف «المحمّدَين» (ابن زايد وابن سلمان). ركيزتا العداء المشترك تجاه إيران، ومحاولات جذب استثمارات أجنبية لتمويل خطة التحوّل الاقتصادي، «رؤية 2030»، الخاصة بابن سلمان، ستدفعان ـــــ بلا لبس ـــــ المملكة إلى تقارب علنيّ مع إسرائيل. فإنشاء مدينة الـ500 مليار دولار، «نيوم» ـــــ العمود الفقري لهذه «الرؤية» المتعثّرة ـــــ يتطلّب «سلاماً وتنسيقاً مع إسرائيل، خصوصاً إذا كانت المدينة ستُتاح لها فرصة أن تصبح منطقة جذب سياحي»، وفق الباحث في مؤسّسة «كونراد أديناور» الألمانيّة، محمد ياغي.
التقاطعات كثيرة، وكذا «المصالح» التي تجمع الحلف غير المُعلن، مضافاً إليها ضغوط أميركيّة تتبدّى عبر وكيل «المصالحة» الخليجية ــــــ الإسرائيلية، جاريد كوشنر، لحمل المملكة على إشهار علاقاتها «الحتميّة» بإسرائيل. ورغم أنّه «لا يمكن تغيير مسار سفينة حربيّة بين عشيّة وضحاها»، على حدّ تعبير كوشنر قبل أيام، فهو عاد وذكّر الرياض، يوم أمس، بأنّ مِن شأن تطبيع علاقاتها مع تل أبيب أن يصبّ في مصلحة اقتصاد ودفاع المملكة، إلى جانب أنه سيسهم في الحدّ من قوّة إيران في المنطقة. بالنسبة إلى إسرائيل، يمثّل «اتفاق السلام» بينها وبين الإمارات «الحجر الأساس الأهمّ في الطريق إلى تحقيق الهدف المركزيّ المتمثّل في تطبيع العلاقات مع السعودية»، والتعبير لمسؤول سياسي إسرائيلي تحدّث إلى «يديعوت أحرونوت».
في مقابل صمت الرياض الرسمي ودعوات واشنطن العلنيّة، التزم الإعلام السعودي، على جري عادته، سرديّة موحّدة، تقوم على تسويق فكرةٍ مفادها أنّ المملكة تنظر إلى تطبيع العلاقات بين أبو ظبي وتل أبيب باعتباره شأناً سيادياً إماراتياً، من شأنه أن «يسفر عن نتائج جيدة بالنسبة إلى القضية الفلسطينية»، عبر «تعليق عمليّة الضمّ إلى أجل غير مسمّى»، رغم كلّ ما حُكي ويحكى إسرائيلياً عن دعاية لا أساس لها سوّقتها الإمارات لتبرير خطوتها. بحسب ما كُتب، فإنّ الإعلان «لا ينطوي على أيّ تدخّل في الشأن الفلسطيني، بل (هو) حدّد خطوطاً حمراً لأي سياسة قد تنتهجها إسرائيل تنطوي على هضم حقوق الشعب الفلسطيني، وأبعد شبح ضم الأراضي الفلسطينية، وعزّز الحلّ عبر الدولتين».
ذكّر كوشنر الرياض بأنّ مِن شأن تطبيع علاقاتها مع تل أبيب أن يصبّ في مصلحة اقتصادها


تبرير الخطوة الإماراتية من باب «الواقعية» بوصفها «تشكل اختراقاً مهمّاً في عملية السلام... بعدما عانت من جمودٍ طويلٍ من دون أي تقدمٍ أو نجاحٍ»، كان له حصة وازنة، فضلاً عن الدعوة إلى «تجاوز الانقسام القاتل على قاعدة العودة إلى المطالبة بمبادرة السلام العربية كأساس للتفاوض». تعتبر الرياض، عبر إعلامها، أنّ «سياسة القطيعة والمقاطعة لم تحقّق لا مصلحة الفلسطينيين ولا مصلحة العرب»؛ من هنا، اختارت أبو ظبي «مقاربة أخرى تقوم على الاتصال والاعتراف لطرح المشكلات العالقة في مناخ مختلف»، ذلك أنّ «القضية الفلسطينية العادلة ظلّت لأكثر من سبعين عاماً من دون حلٍّ سياسي مُرضٍ للفلسطينيين الذين كانوا يصرّون على أشياء كبيرة، ويراهنون على قوة الحق ويتناسون حق القوة»، ويعتمدون «بالكامل على المساعدات من الدول العربية، وبخاصة دول الخليج العربي الغنية، في معاشهم وحياتهم ووظائفهم وسلطتهم وسفاراتهم، وفي كل تفاصيل حياتهم». إلى جانب كلّ ذلك، يتحدّث هؤلاء عن «ابتزاز عاطفي وأيدلوجي غير مسبوق (مورس) بسبب قضية فلسطين»، رغم أنّها «مثل كل قضايا التحرير التي كابدت الشعوب المحتلة لنيل تحررها من المستعمر، فلا الفلسطينيون أفضل من الفيتناميين ولا الجزائريين ولا بقية الأمم، ومع ذلك حظوا بدلال منقطع النظير... بينما كل الوثائق التاريخية تؤكّد أنهم هم من باعوا أراضيهم ليس بالمفرد بل بالقرى والنواحي حتى تحوّلت لمستوطنات يهودية». لذا، فـ»لا حلّ حقيقياً للقضية الفلسطينية إلا بمصارحة الفلسطينيين لأنفسهم وبناء هوية جديدة تقوم على أكتافهم لا أكتاف غيرهم... وتحمّل المسؤولية هي الطريق الصحيح».
سيشجّع تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل دول الخليج الأخرى جميعها على أن تحذو حذو نظيرتها، وتخرج بعلاقاتها السريّة مع إسرائيل إلى العلن، حتى لا تُترك أبو ظبي وحدها تتمتّع بالجمع بين رأسمالها والتكنولوجيا الإسرائيلية المتطوّرة في كلّ المجالات، وتصبح هي وتل أبيب الأكثر قوّة وثروة في الشرق الأوسط، بحسب توماس فريدمان في «نيويورك تايمز» الذي يتحدّث في مقالته عن رسالة أخرى أقوى وذات بعد نفسي، موجّهة إلى إيران ووكلائها، مفادها أن «هناك الآن تحالفين في المنطقة؛ الأول هو تحالف الراغبين في أن يدفن المستقبل الماضي بقيادة الإمارات، والثاني هو تحالف من يريدون للماضي أن يدفن المستقبل بقيادة إيران».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا