توازياً مع رفضها إدراج السعودية على قائمة الدول المتهاونة في مكافحة تمويل الإرهاب، أيّدت الدول الأوروبية بياناً في مجلس حقوق الإنسان يدعو المملكة إلى إطلاق سراح عشرة نشطاء، ويطالبها بالتعاون مع التحقيق الأممي في مقتل الصحافي جمال خاشقجي. مفارقة تجلّي طبيعة التكتيكات الأوروبية في التعامل مع الرياض، القائمة على رفض اتباع خطوات من شأنها تهديد المصالح التي تجمع تلك الدول بالسعودية، وفي الوقت نفسه عدم ممانعة اتخاذ مواقف كلامية لا تكلّف حكومات الاتحاد الأوروبي ثمناً. مع ذلك، يبقى لهذه المواقف دورها في عرقلة جهود المملكة لمحو آثار مقتل خاشقجي، خصوصاً أنها تتوازى مع تصاعد المزاج المناوئ للرياض داخل الكونغرس الأميركي.يوم أمس، وللمرة الأولى منذ تأسيس مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عام 2006، تلقّت السعودية أول توبيخ لها، سطّرته أكثر من 30 دولة، بينها كل دول الاتحاد الأوروبي الـ28. ودعا البيان، الذي تلاه مبعوث أيسلندا إلى مكتب الأمم المتحدة هارالد أسبيلوند، إلى الإفراج عن النشطاء لجين الهذلول، إيمان النفجان، عزيزة اليوسف، نسيمة السادة، سمر بدوي، نوف عبد العزيز، هتون الفاسي، محمد البجادي، أمل الحربي، وشدن العنزي. وتأتي هذه الدعوة في أعقاب إعلان السعودية، السبت الماضي، اعتزامها إحالة المعتقلين المذكورين على «المحكمة المختصّة» بعد «انتهاء التحقيقات»، التي تخلّلتها عمليات تعذيب بالكهرباء والجلد، فضلاً عن انتهاكات جنسية. وجددت السلطات اتهام النشطاء، الذين اعتُقلوا على خلفية حراكهم الحقوقي، خصوصاً في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، بـ«العمل المنظم على النيل من أمن المملكة واستقرارها وسلمها الاجتماعي، والمساس باللحمة الوطنية».
وفي ردّها على ذلك، أعربت الدول الموقعة على بيان الأمس، الذي أيدته كندا وأوستراليا دون الولايات المتحدة، عن «القلق في شأن استخدام قانون مكافحة الإرهاب، وغيره من الأمور الخاصة بالأمن القومي، بحق أفراد يمارسون حقوقهم وحرياتهم بشكل سلمي». وحول قضية خاشقجي، جدد البيان إدانة حادثة القنصلية السعودية في إسطنبول، مطالباً بـ«تحقيق مستقل وموضوعي وشفاف فيها»، وحاضّاً السعودية على التعاون مع التحقيق الذي تقوده مقررة الأمم المتحدة الخاصة لعمليات الإعدام خارج نطاق القانون، أغنيس كالامار. وهو ما رأت فيه كالامار «خطوة مهمة لضمان المحاسبة»، لافتة إلى أن «على المجتمع الدولي مسؤولية مشتركة لتسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان، في بلد استطاع حتى الآن التملّص من هذا النوع من التدقيق».
واشنطن: منطق دول الاتحاد تغلّب على الموقف الدوغمائي للمفوضية الأوروبية


وفي الوقت نفسه الذي صدر فيه التوبيخ الدولي للسعودية، كانت دول الاتحاد الأوروبي، مجتمعةً، ترفض اقتراحاً من المفوضية الأوروبية بإدراج المملكة على قائمة سوداء للدول التي يُشتبه في تهاونها مع تمويل الإرهاب وغسل الأموال. رفض جاء بعد ضغوط مكثفة مارستها السعودية من أجل إسقاط المقترح، الأمر الذي جرى تغليفه بأن مسودة القائمة لم تستند إلى «عملية تتسم بالشفافية، تشجع الدول على اتخاذ إجراءات، وتحترم في الوقت ذاته حقها في عرض وجهة نظرها»، وفقاً لما جاء في بيان صادر عن دول التكتل. لكن تلك الذريعة يمكن تفنيدها بسهولة، بالرجوع إلى الرسالة التي بعث بها ملك السعودية، سلمان بن عبد العزيز، إلى الزعماء الأوروبيين، محذراً إياهم من أن خطوة من هذا النوع «ستسبّب مصاعب في تدفقات التجارة والاستثمار بين المملكة والاتحاد الأوروبي»، علماً أن إدراج السعودية على القائمة المذكورة كان سيلزم المصارف الأوروبية بتشديد القيود على التعاملات المالية للأفراد والمؤسسات المالية في المملكة. ومن هنا، يتضح أن الهاجس الرئيس لدى العواصم الأوروبية هو كيفية الحفاظ على المصالح القائمة مع الرياض، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، وهذا ما بدا واضحاً في محاولتها المحمومة لثني برلين عن قرار وقف تصدير الأسلحة للسعودية.
هذه المراوغة الأوروبية، التي سرعان ما تلقت إشادة من الولايات المتحدة بقول السفير الأميركي لدى الاتحاد الأوروبي غوردون سوندلاند إنه «لأمر مشجع أن يتغلّب المنطق لدى الدول الأعضاء على الموقف الدوغمائي للمفوضية»، تظهّر بوضوح جدول أولويات العواصم الغربية. لكن، رغم ذلك، تظلّ لـ«الجعجعة» الدولية حول أداء السعودية السيئ في مجال حقوق الإنسان «فائدتها» في إبقاء الضغط على المملكة قائماً، وتبطيء جهودها لاستعادة الصورة التي حاول ابن سلمان رسمها لبلاده. وما يعزز «الفائدة» المذكورة استمرار «الهجمة» على الرياض داخل الكونغرس الأميركي من قِبَل تيار يشمل جمهوريين وديمقراطيين على السواء. وفي هذا الإطار، جدّد أعضاء في مجلس الشيوخ، خلال جلسة للتصديق على ترشيح جون أبي زيد لتولي منصب سفير الولايات المتحدة في السعودية، هجومهم على ابن سلمان. ووصف السيناتوران الديمقراطي ماركو روبيو، والجمهوري رون جونسون، ولي العهد بأنه «مجرم عتيد». وصف أضاف إليه روبيو قوله إن ولي العهد «متهور عديم الرحمة، ولديه نزوع للتصعيد والمخاطرة». وشدد العضو الديمقراطي البارز في لجنة الشؤون الخارجية، بوب منينديز، من جهته، على «(أننا) لا يمكننا أن ندع المصالح تعمينا عن قيمنا، أو عن مصالحنا في الاستقرار على الأمد الطويل». لكن أبي زيد، الذي رشّحه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، رأى أن «من مصلحتنا ضمان قوة العلاقة».