بعد أيام من اندلاع الأزمة بين السعودية والولايات المتحدة على خلفية تصفية الصحافي جمال خاشقجي، وضع المراقبون عودة سفير المملكة لدى واشنطن إلى عمله، إن تمّت، كعلامة فارقة منتظرة على عودة الأوضاع بين البلدين إلى سابق عهدها وانتهاء الأزمة. كان الأمير خالد، نجل الملك سلمان وشقيق ولي العهد، قفل راجعاً إلى بلاده فور اشتعال انتقادات في أميركا قادها الإعلام ومشرّعون وصلت إلى اتهامه بالتواطؤ في جريمة خاشقجي والتورّط في استدراج الرجل، وخروج أصوات تطالب بطرده. طال الانتظار ولم يعد خالد إلى سفارته، سوى في زيارات عابرة لم تظهر أن الوضع عاد إلى ما كان عليه وأن السفير رجع إلى عمله الروتيني.
توقيع ولي العهد للقرار بختمه يمكن أن يقرأ كرسالة إلى الأميركيين (أ ف ب )

في أعقاب اختفاء خاشقجي وعودة خالد إلى بلاده، سرعان ما سرت رواية في الإعلام الأميركي عن أن الأمير خالد لن يعود إلى منصبه، وأن ثمة مرشحة لخلافته في المنصب، هي ريما بنت بندر بن سلطان. تأكيد التعيينات السعودية الجديدة لهذه المعلومات، بعد أسابيع، يوحي بأن ما يجري يرتبط بشكل وثيق بالانتكاسة التي منيت بها المملكة في الولايات المتحدة، لا سيما على مستوى صورتها في الإعلام ولدى المؤسسات. ولئن كان إحداث سابقة بإدخال «الأميرات» إلى أعلى المناصب الدبلوماسية، وتعيين امرأة للمرة الأولى في تاريخ البلاد كسفيرة، يؤكد محاولة ولي العهد، محمد بن سلمان، ترميم صورة البلاد و«الإصلاحات» التي تَصدّع وجهها منذ قتل خاشقجي، فإن الخطوة بالموازاة هي بمثابة عودة إلى خبرات فريق السفير السابق الأمير بندر بن سلطان، الذي عاد إلى الحياة العامة قبل أيام من بوابة مقابلة إعلامية مثيرة للجدل.
الاستعانة بـ«الحرس القديم» كانت دُشّنت مع تعيين إبراهيم العساف، خرّيج معتقلات «الريتز»، وزيراً للخارجية مكان عادل الجبير. يومها بدا الأمر خطوة إلى الوراء، وإقراراً بضرورة تصحيح المسار المتهوّر بالعودة إلى ذوي الخبرة والكفاءة في البلاط. وبخصوص السفارة نفسها، فقد أحدث ابن سلمان، إثر أزمة خاشقجي وخروج خالد، تبديلات في الفريق، وصولاً إلى إقالة شقيقه وتعيينه نائباً له في وزارة الدفاع وإعادة السفارة إلى «آل سلطان»، الذين وإن تضرّرت العلاقة مع البعض من جناحهم، إلا أنه لم يبد أن ثمة تغييراً طرأ على علاقة آل سلمان ببيتهم تحديداً، كحال باقي البيوتات في آل سعود. يشي القرار بأن الرياض لم تشعر بعد بانتهاء الأزمة مع واشنطن، وبحاجة عميقة إلى ترميم التصدعات التي طاولت العلاقات. ورغم بقاء العلاقة مع الرئيس دونالد ترامب في مستويات جيدة، فإن الحال ليس مماثلاً مع باقي المؤسسات في واشنطن. ويكفي تتبّع نشاط المشرّعين في الكونغرس ضد المملكة لمعرفة فداحة ما وصلت إليه الأمور.
ليس لريما بنت بندر وابنة «آل الفيصل» من جهة الأم سجل لافت سياسياً ودبلوماسياً


ليس لريما بنت بندر بن سلطان، وابنة «آل الفيصل» من جهة الأم، سجل ملفت سياسياً ودبلوماسياً، سوى أنها عاشت طفولتها في الولايات المتحدة في ظلّ قيادة والدها للعلاقات بين البلدين، كسفير منذ 1983 حتى 2005، ومن ثم نشاطات حقوقية واجتماعية تأخذ طابع العلاقات العامة. نجح ابن سلطان، الذي أغدق الأموال على اللوبيات وأصحاب النفوذ في الإدارة، في توطيد العلاقات بشكل عام، لكن يبقى أهم دور لعبه هو تجاوز الأزمة بين البلدين الناجمة عن هجمات 11 أيلول، وترميم صورة المملكة الموسومة بتصدير الفكر المتطرف. وهو استحقاق مشابه لما أوكل اليوم إلى ابنته السفيرة بمرتبة وزير ريما، بإصلاح ما تهشّم من صورة المملكة لدى الأميركيين إثر فضيحة خاشقجي المدوّية.
في جانب آخر، تظهر أهمية القرارات الجديدة من زاوية كونها صادرة عن ابن سلمان، وكالة عن والده الملك، الذي فوّضه صلاحياته بداعي السفر إلى مصر حيث يشارك في القمة العربية ـــ الأوروبية. كان بإمكان سلمان أن يصدر الأوامر قبل أو بعد العودة، لكن بالتأكيد ثمة إصرار مريب على إظهار أن ولي العهد هو من أقال أخيه وعيّن أول امرأة في منصب سفيرة. ليس واضحاً تماماً ما يعنيه الأمر للداخل، لكنه يمكن أن يقرأ كرسالة إلى الأميركيين بأنه حريص على مسار «الإصلاح» من ناحية، وكذلك على العلاقات بين البلدين. وفي كل الأحوال، فإنها سابقة أن يصدر ولي العهد أوامر بهذه الخطورة والأهمية، عادة لا تصدر إلا عن الملك مباشرة، ولو بصورة شكلية. أما إعادة ابن سلمان شقيقَه خالد، الطيار الحربي السابق، من الدبلوماسية إلى العسكر من جديد، والذي بات الآن يعمل كـ«ظلّ» لشقيقه الأكبر، وإن كان إقراراً غير مباشر بفشل الأمير الشاب، فهو في الوقت نفسه لا يمنع الأسئلة حول تغييرات حساسة تنتظرها قصور جدة والرياض.