الآن، وبعد ثماني سنوات من فعل الثورة في البحرين، قد يبدو المشهد الميداني مختلفاً عما كان عليه في الأعوام الأربعة الأولى، إن من حيث استمرارية التدفق الجماهيري، أو من حيث حضور القيادة السياسية الملهمة والقادرة على إنتاج خطاب تواصلي مواكب لمتغيّرات ميزان القوى على أرض الواقع. خلال السنوات الثلاث الأخيرة، طرأت تحولات جوهرية على مسار الثورة، حتى اعتقد البعض بأن الأخيرة يتيمة ومنسية ولا تمتلك حظوظ النجاح أو التقدم. لقد جاء ذلك كنتيجة لهزيمة ثورات الربيع العربي، وقاد كثيرين إلى الاعتقاد بأن منطق الثورات العربية بات منطقاً عقيماً؛ لغياب الرشد الثوري في الممارسة الميدانية، وغياب الرؤية الاستراتيجية التي تصطدم مع البنى الهيكلية المؤسِّسة لأنظمة الحكم القائمة. بداية، تجدر الإشارة إلى سمتين تُعدّان من أهم خصائص ثورة البحرين. أولاهما العمق الاستراتيجي لهذه الثورة، وهو عمق يمسّ قاع شبكة المصالح الاستراتيجية للنظام الشرق - أوسطي. وثانيتهما تحوّل الاحتجاج السياسي من العفوية إلى فعل الثورة. لم تكن لحظة 14 شباط/ فبراير 2011 أولى لحظات التمرد الشعبي على نظام الحكم في البحرين. فمثل تلك الانتفاضات ظلّت تحافظ على إيقاعها الزمني منذ بداية تشكل عنفوانها في تشرين الأول/ أكتوبر 1922، عندما تجمّع أكثر من 1500 مواطن بحريني أمام مبنى المعتمدية البريطانية للاحتجاج على اعتقال مواطن من قِبَل «فدواية» (حرّاس) الشيخ الحاكم. وعلى رغم الزخم الشعبي الذي نالته حركة الاحتجاج الواسعة في 1954، والانتفاضة الدستورية سنة 1994، إلا أن مصطلح الثورة لم يكن من ضمن أدوات المعجم السياسي البحريني. في كل هذه الانتفاضات، كانت الدول الاستعمارية تدين الاحتجاجات، وتدعم نظام الحكم، وتصف الحركات المناهضة للسياسات الاستبدادية بأنها حركات تطرف، وفي الوقت نفسه تعمل على تزيين نظام الحكم، ومحاولة جعله يبدو كديموقراطيات دستورية.
من هنا، فإن لحظة 14 فبراير 2011، التي دشّنت مصطلح الثورة في الحراك السياسي البحريني، تُعدّ تحولاً جذرياً في أساليب مواجهة الاستبداد في منطقة الخليج العربي، كان لا بدّ أن يصطدم بمشاريع استراتيجية أكبر من دول المنطقة مجتمعة. لا مجال للشك في أن الانطلاق الثوري، على رغم أنه كان مُوجَّهاً ضد الديكتاتوريات المدعومة من الغرب، إلا أنه في العمق شكّل تهديداً فعلياً للنظام الاستراتيجي الإقليمي، وليس للنظام الحاكم في البحرين فقط. وهذا أدى إلى أن تقوم الدول الراعية للنظام الإقليمي بتنفيذ استراتيجيات إفراغ الثورة، والقضاء عليها عملياً وسياسياً. فمنظومة الدول الإقليمية لا تحتمل وجود ديموقراطية كاملة ونظام مواطنة يحفظ كرامة الناس ويقّلص حجم الفساد والمحسوبيات، والأهم من ذلك أن يكون في هذه المنظومة نظام سياسي مستقل في قراره السياسي وفق ما كانت منشورات الثورة تطالب به.
إن الثورة تحدث عندما لا يكون هناك مخرجٌ غيرها، ونادراً ما نقرر أن نقوم بثورة بكامل إرادتنا، وبشكل طوعي. لكن، عندما تحدث، فإن ما علينا فعله هو أن نكون مستعدّين لها، بغية تجذيرها. هكذا كان وضع جزيرة البحرين الصغيرة في فبراير 2011. لم يقرر الشعب الثورة في دعوته، ولم يطرح إسقاط النظام على رأس قائمة مطالبه بشكل جدي، حتى لحظة تدخل قوات «درع الجزيرة» بالتنسيق مع قوات الجيش البحريني لفرض الأحكام العرفية، وتنفيذ أكبر حملة تطهير طائفي وقمع سياسي في المنطقة. كانت هذه اللحظة التاريخية أكثر أثراً وهيمنة في وعي البحرينيين من لحظة انطلاق تظاهرات 14 فبراير من العام نفسه. فحتى الآن، وبعد ثماني سنوات من فعل الثورة، لا تزال حرارة تلك اللحظات مؤثرة وقادرة على إيقاد روح التمرد على النظام.
ثورة البحرين تحتاج إلى أن تبني لنفسها موقعاً أفضل في العمق الاستراتيجي المضاد


صحيح أن الثورة في القاموس السياسي تحمل عنفاً في ممارستها اليومية، حتى وإن حملت شعار السلمية، لكنه يبقى عنفاً مقدّساً في سياق الثورات التاريخية. وفي المقابل، فإن العنف الذي يمارَس ضد الثورة، كما يبدو من التجارب الثورية، يكون همجياً وتطهيرياً مثلما حدث مع ثورة البحرين. وقد تؤول الأمور إلى أن تنجح آلة القمع الرسمية في إخماد الثورة أو سحقها أو إطفاء جمرتها، بسبب امتلاك النظام أدوات القمع، وقدرته على تجنيد الفئات الاجتماعية المستفيدة منه، فضلاً عن قدرته على ضرب القوى الاجتماعية الفاعلة ببعضها البعض. وبسبب من احتكاره للسلطة والثروة، فإن ذلك يوفر له خبرة أوسع بالخرائط الاجتماعية، وكيفية اختراقها واستمالتها، فضلاً عن أن هذا الاحتكار يؤمن له مصادر تمويل تمكّنه من الإنفاق بشكل باذخ على المعارك التي يخوضها على مختلف الجبهات. وهذا يقودنا إلى ضرورة إدخال «العمق الاستراتيجي المضاد» كمفهوم جدير بالتداول لمواجهة توغل العمق الاستراتيجي الذي تستهدفه الثورة في البحرين، والذي واجه نصيبه الواسع من القمع والتطهير. فثورة البحرين، كي تنجز بعض تطلّعاتها الدنيا فضلاً عن طموحها الكبير، تحتاج إلى أن تبني لنفسها موقعاً أفضل في العمق الاستراتيجي المضاد، وقبل ذلك تحتاج إلى وضوح في المعنى الثوري المراد إنجازه.
بعد ثماني سنوات من فعل الثورة، وفعل مواجهتها دولياً وإقليمياً، تعيد القوى السياسية ترتيب المشهد السياسي استعداداً للعادة القديمة والإيقاع المعتاد، وهو الانتفاضة كل عشر سنوات. والمفارقة هنا أن إعادة الإنتاج تلك لم تعد منقطعة مع سابقتها، بل على العكس من ذلك، يعاد إنتاج اللحظة الثورية نفسها، وفق منطق الاستمرار والتسلح بدروس التجربة وبالقيادات السياسية والميدانية عينها. وهذا ما يعطي فرصة تجديد الثورة مساحة أوسع من الحرية. إعادة تؤكد أن قضية البحرين أبعد من كونها قضية محلية أو قصة مظلومية عادية، فحتى مع إحكام القبضة الأمنية لا تزال أشواك الثورة قادرة على إحداث الجروح الاستراتيجية.

*كاتب وباحث بحريني