بوادر عمل ابن زايد على استنساخ تجربة «إسلام إماراتي» منافس بدأت فور وصوله إلى منصب ولاية العهد في 2004، حين تكفّل بنشر الأفكار الصوفية بمواجهة السلفية، بناءً على توصيات الولايات المتحدة المستخلصة من هجمات 11 أيلول/ سبتمبر. بعدها، رسّخ ابن زايد المذهب المالكي في البلاد، وصعّد الطريقة الصوفية مع استجلاب وجوهها، وصولاً إلى تمويل مؤسسة «طابة» وتأسيسها بقيادة اليمني الحبيب علي الجفري. جزء من هذا المشروع مردّه تثبيت زعامة آل زايد بوجه العائلات الحاكمة الأخرى في الإمارات، مِمَّن لديهم علاقات جيدة مع «الإخوان المسلمين» والسلفيين. أما الجانب الأهم، فهو البحث عن رافعة فكرية قبالة المشاريع الإقليمية الأخرى، تجمع بين مقومات المنافسة، وضمان الرضى الأميركي المرهون دوماً بالوصول بالتطبيع مع إسرائيل إلى مستوياته الشاملة والعلنية، مع الإعفاء من مراعاة مبادئ كالديمقراطية وحقوق الإنسان.
قطر والمؤسسة الدينية السعودية أبرز الخاسرين من الخطوة
بقيت ملامح «الإسلام الإماراتي» هجينة ضعيفة، تجمع بين احتضان الأزهرية التقليدية، والصوفية، وتيارات «التجديد والتنوير». وجامع الكل فكرة العلاقة المتسامحة مع الحاكم وعدم التمرّد عليه، وعدم التطرّق إلى أي من الحقوق السياسية، وتجنب الترويج لخطاب يصطدم بالغرب وإسرائيل ويضع حاجزاً أمام التطبيع مع تل أبيب، وفي الوقت نفسه التمايز عن السلفية والوهابية في فصل الانفتاح الاجتماعي. الأساس، كان ولا يزال، رفد توطيد العلاقة مع الولايات المتحدة ولوبيات صنع القرار مع الغرب. أدرك ابن زايد أهمية تقديم «إسلام ليبرالي» مقنع للأميركيين والغربيين بشكل عام لكسب ثقتهم، وهو ما يستنتج أيضاً من كلام يوسف العتيبة. وعلى النقيض، حين تحتاج قوات الإمارات في اليمن إلى مقاتلين «من أصحاب العقيدة والثبات في ميادين الجهاد»، وتقتضي مصلحة الدور الإقليمي منافسة «الإخوان» ومقارعة «الحوثيين»، لا بأس بمدّ اليد إلى «كتائب أبو العباس» أحد أكثر التنظيمات السلفية تعصباً وإجراماً واستخداماً للقتل والسحل والتكفير والممارسات الظلامية.
نجح الرجل في مزاحمة شيوخ الوهابية والسلفية المنتشرين على المنابر والمحتكرين لوسائل الإعلام. نقطة التحول في المشروع الإماراتي كانت مجيء محمد بن سلمان إلى الحكم في الرياض، قبل الاستفادة من مجيء دونالد ترامب، الرئيس الأميركي المعادي هو وفريقه للإسلام السياسي، والمؤمن بأن استخدام ورقة «المتطرفين» انتهت صلاحيتها. حصل ابن زايد على ابن سلمان؛ شاب معجب بالنموذج الإماراتي، ولديه رغبة في إحداث تغيير بالمملكة. ولئن اختلفت «الوهابية الجامية» السهلة الترويض التي يشجّعها ابن سلمان، عن «الإسلام الإماراتي»، فهي تشبهه في إرضاء الغرب وطمأنته. بلغ الأمر بمحمد بن زايد، بعد تحالفه الجديد، حدّ رعاية مؤسسة «طابة» المذكورة مؤتمر غروزني في 2016، الذي خلُص في إجابته عن سؤال «من هم أهل السُّنة والجماعة؟» إلى إخراج الوهابية و«الإخوانية» والسلفية من المذهب السُّني، بلا قلق من ردّ فعل يصدر عن المملكة الوهابية المجاورة.
مشهدان يلحظان في ظهور ابن زايد في استقبال البابا فرانسيس، مظهر «المنتصر» والقاطف لثمار عمله في السنوات الماضية. الأول، توجيهه إهانة كبرى إلى المؤسسة الوهابية في الرياض، إذ لم يرسل دعوة إلى مفتي المملكة لحضور الحدث التاريخي. الثاني، وعلاوة على تجاهل المؤسسة الوهابية، أحضر شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب، ليتصدر مشهد استقبال البابا والاحتفاء به من موقع ممثل الإسلام في المنطقة والعالم. الخاسر الآخر، بعد المؤسسة الدينية السعودية، هو قطر وحلفاؤها من الإسلاميين. في إطار المنافسة، نجحت أبوظبي في إحداث انشقاق داخل «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» (بزعامة يوسف القرضاوي) في 2014، فطلبت من نائب رئيس الاتحاد، الموريتاني عبد الله بن بيه، تقديم استقالته والاستفادة منه لتأسيس «مجلس حكماء المسلمين». هذا المجلس، الذي بات يرأسه شيخ الأزهر، وُضع في واجهة مستقبلي البابا، لتبدأ رحلته في تصدر الزعامة الدينية إقليمياً ودولياً، منافساً لـ«الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» الذي ترعاه الدوحة. أمس، علّق الاتحاد على زيارة البابا، معبّراً بشكل صريح عن الامتعاض القطري ــ الإخواني. إذ رأى أمينه العام علي القره داغي، أن الزيارة «إلى أبوظبي، المنخرطة في كبت الحريات ودعم الانقلابات، وفي حرب عدوانية على إرادة الشعوب، والحصار الظالم لدولة عربية مسلمة... قد تفسر بأنها تزكية لانتهاك حقوق الإنسان والاستبداد».