جاءت الموازنة العامة السعودية لعام 2019 مُحمّلة برسائل إلى مستثمري الداخل والخارج، الذين ولّدت لديهم سياسات محمد بن سلمان قلقاً من «كبّ» أموالهم في اقتصاد المملكة، خصوصاً عقب واقعة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي. وعلى رغم أن معظم التوقعات تذهب نحو سعر منخفض لبرميل النفط، تبني المملكة إيراداتها على أساس سعر مغرق في التفاؤل، ما يؤكد الطابع الاستعراضي للأرقام المعلنة أمس.«الموازنة الأكبر في تاريخ المملكة». توصيف طغى، أمس، على «الاحتفاء» الرسمي بإعلان الموازنة السعودية لعام 2019. هي نفسها فكرة «الضخامة» التي دائماً ما تستند إليها الرياض لتصدير صورة مختزلة هدفها القول: إننا سائرون «نحو تحقيق التنمية الشاملة في جميع مناطق المملكة وفي كافة المجالات»، وفق ما تحدث به الملك سلمان لدى إعلان الموازنة. لكن هذا التبسيط، وكما في كل مرة، لا يفلح في حجب مكامن الضعف والخلل، التي يحرص الخطاب الرسمي على مواراتها خلف «الأرقام القياسية» المُصوَّرة كمؤشرات تعافٍ وازدهار.
في المجمل، أمكن السلطات التباهي بأن الإيرادات ستزيد بنسبة 9% (260 مليار دولار)، والإنفاق سيبلغ مستوى غير مسبوق بارتفاع قدره 7% (295 مليار دولار)، فيما سيتراجع العجز بنسبة 4.2% إلى 35 مليار دولار. إلا أن في ما وراء هذه الأرقام حقائق ومعطيات وتفاصيل تجعل «الاحتفال» نوعاً من المبالغة في الحدّ الأدنى. تمثل الإيرادات غير النفطية المتوقعة في العام المقبل 32% من مجمل الإيرادات (83.5 مليار دولار)، بتراجع قدره قرابة 5% عما بلغته في عام 2017، ما يعني بِلُغة النسب نقطة سالبة لـ«رؤية 2030»، على رغم تأكيد ولي العهد، محمد بن سلمان، أن بلاده «ماضية في تنويع مصادر الإيرادات، وتعزيز الاستدامة المالية من خلال زيادة الإيرادات غير النفطية»، واستشهاده على ذلك بأن تلك الإيرادات ستصل إلى 313 مليار ريال في 2019، بعدما كانت 287 مليار ريال في 2018.
ستخصّص الرياض 200 مليار ريال لتحفيز القطاع الخاص


في الاستنتاج التالي، يلاحظ ارتفاع نسبة الإيرادات النفطية المتوقعة من نحو 63% إلى 68%، بافتراض أن متوسط سعر برميل النفط سيصل في العام المقبل إلى نحو 80 دولاراً. وهو افتراض تناقضه توقعات معظم خبراء النفط الذين لا يتجاوز أكثرهم تفاؤلاً عتبة 60 دولاراً للبرميل بفعل زيادة المعروض وضعف الاقتصاد العالمي، ما يعني أن التقديرات السعودية الأخيرة، التي تناقض دأب المملكة على تقديم افتراضات محافظة، مغرقة في التفاؤل. في الإيرادات أيضاً، تتوقّع الحكومة أن تجني من الضرائب المفروضة على المواطنين 183 مليار ريال، ارتفاعاً من 166 مليار ريال متوقّعة بنهاية عام 2018. ارتفاع يشي بأن السياسة الضريبية ستظلّ تشكّل مصدراً رئيساً لسدّ العجز، في ظلّ استمرار انخفاض أسعار النفط، مع ما يعنيه الأمر من «إنهاك للمواطن والوافد والزائر» في سبيل «التعويض عن فشل السياسات التي اتبعها ابن سلمان». وجرياً على عادة إشهار العصا ومدّ الجزرة في الوقت نفسه، استبق الملك سلمان إعلان الموازنة بإصداره أمراً باستمرار صرف بدل غلاء المعيشة للمواطنين لمدة عام مالي واحد، «إلى حين استكمال دراسة منظومة الحماية الاجتماعية» بحسب ما جاء في الأمر الملكي.
إلى جانب الضرائب، سيُموَّل العجز المتوقع في 2019، والبالغ 35 مليار دولار، عبر «السحب من حساب الاحتياطي العام للدولة»، وعبر الاقتراض أيضاً، وفق ما أعلنت وزارة المالية في بيان. هنا، يحضر الرقم المتوقّع للدين العام، البالغ 678 مليار ريال (180.8 مليار دولار، بارتفاع قدره 17.7% عن عام 2018)، أي ما يعادل 21.7% من الناتج المحلي الإجمالي. قفزة تؤكد مرة أخرى أن المملكة متجهة نحو الإغراق في دوامة الاقتراض الداخلي والخارجي (المتوقّع ارتفاعه إلى 226 مليار دولار في 2021) خدمة لـ«رؤية» ابن سلمان، التي تحيط بها الكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام. هذه الشكوك تضاعفت أمس مع إعلان ولي العهد تخصيص «200 مليار ريال على المدى المتوسط لتنفيذ مبادرات متعددة تهدف إلى تحفيز القطاع الخاص». إذ إن هذا الإعلان يثبّت حقيقة وجود إحجام لدى الشركات السعودية والأجنبية عن الاستثمار في اقتصاد المملكة، على الرغم من محاولة وزارة المالية التغطية على ذلك بالقول إن الحكومة أصدرت أكثر من 700 رخصة لاستثمارات أجنبية في 2018، مقابل 350 في 2017. ويُعزى تراجع الاستثمار إلى أسباب متعددة، من بينها استمرار تباطؤ النمو، الذي تتوقّع الحكومة ارتفاعه بـ2.3% في العام المقبل. وهو ارتفاع لا يُقارن بما كان عليه الحال في وقت سابق من العقد الحالي، كذلك فإنه لا يُعَدّ كافياً لكبح معدل البطالة القياسي، البالغ قرابة 13%، والذي لا يبدو أنه يتجه إلى التراجع، خصوصاً في ظلّ فشل خطة «سعودة» الوظائف، التي أدت العجلة في تطبيقها إلى إغلاق المئات من فروع شركات التجزئة العملاقة داخل المملكة.
مع ذلك، طمأن ابن سلمان إلى قدرة بلاده على «إيجاد بيئة استثمارية جاذبة تساهم في توجيه الاقتصاد الوطني نحو آفاق واسعة من النمو والازدهار»، لافتاً إلى أن «الحكومة ضخّت في هذه الميزانية مزيداً من الاستثمارات في برامج تحقيق رؤية المملكة 2030 لدعم النمو الاقتصادي». تصريحات تؤكد أن موازنة 2019 تستهدف، بالدرجة الأولى، «إقناع المستثمرين الأجانب بمتانة الاقتصاد السعودي، وتحقيقه نمواً بوتيرة منتظمة وعالية»، وفقاً لتعليقات معارضين على إعلان الموازنة.



الخامسة عالمياً في الإنفاق العسكري
حافظ الإنفاق العسكري على حصة مهمة من الموازنة السعودية لعام 2019، مُسجِّلاً 51 مليار دولار من أصل 295 مليار دولار، هي إجمالي النفقات، أي ما نسبته قرابة 17% منها. وهي نسبة تقلّ بقليل عن تلك التي سُجّلت في موازنة 2018، والبالغة 21% من حجم النفقات، بما يعادل 57 مليار دولار. ووفقاً لتقرير صادر أمس عن مكتب «إي إتش إس ماركت» حول ميزانيات الدفاع في دول العالم، تجاوزت ميزانية الدفاع السعودية لعام 2018 ميزانية فرنسا، محتلّة المرتبة الخامسة عالمياً، وذلك على الرغم من أن الحكومة الفرنسية رفعت في السنة المذكورة نفقاتها الدفاعية لتبلغ 53.6 مليار دولار. وبحسب التقرير نفسه أيضاً، شهدت ميزانيات الدفاع العام الجاري أكبر زيادة لها منذ عشر سنوات، في ظلّ توقعات بأن يبقى الشرق الأوسط محركاً أساسياً «لنمو مستدام في النفقات المرتبطة بالدفاع».