منذ انتهاء «قمة العشرين» التي انعقدت أواخر الأسبوع الماضي في بوينس آيرس، والتي بدا أن التعامل الغربي فيها مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لم يَرُق تركيا، عادت الأخيرة إلى تصعيد مواقفها بمواجهة الرياض، على خلفية اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول. تصعيد بلغ ذروته أمس، مع إصدار القضاء التركي مذكّرتَي توقيف بحقّ كل من سعود القحطاني وأحمد عسيري، المقرّبَين من ابن سلمان والمتّهمَين الرئيسَين في التخطيط للجريمة والإشراف عليها. دلالة الخطوة التركية تنبع من توقيتها، إذ إنها تأتي توازياً مع تصاعد المطالبات في الداخل الأميركي بموقف أكثر حزماً تجاه وليّ العهد، الذي بات كل من الكونغرس والاستخبارات المركزية مجتمعَين على إدانته. وهي مطالبات يُتوقّع أن يشكّل اجتماع منظمة «أوبك» اليوم في فيينا حافزاً إضافياً لها، في ظلّ تواتر المعلومات عن اقتراب المفاوِضين من الاتفاق على خفض إنتاج النفط.وأصدر القضاء التركي، أمس، مذكّرتَي توقيف بحق المستشار السابق في الديوان الملكي السعودي ونائب رئيس الاستخبارات العامة سابقاً، بناءً على طلب من المدعي العام في إسطنبول الذي يَشتبه «بقوة» في أنهما من «ضمن المخطّطين» لحادثة القنصلية. وكانت السعودية قد أعلنت، لدى اعترافها بالجريمة في الـ20 من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، إقالة القحطاني وعسيري، لكنها عادت وبرّأتهما في الرواية الأخيرة التي قدّمتها منتصف الشهر الفائت، عندما ادعت أنهما خطّطا فقط لإعادة خاشقجي إلى المملكة، ولم يكن في نيتهما القتل. ورأى مسؤول تركي كبير مقرّب من التحقيق في طلب المدعي في إسطنبول دليلاً على إيقان أنقرة أنّ «السلطات السعودية لن تتحرك رسمياً ضد هذين الشخصين»، معتبراً أن «اللائحة الحالية ليست بالضرورة نهائية». وسبق للسعودية أن رفضت بنحو قاطع تسليم تركيا المشتبه فيهم بقتل خاشقجي، مُتعلّلة بأن هؤلاء «مواطنون سعوديون، واعتُقِلوا في السعودية، والتحقيق معهم يجري في السعودية»، وكذلك محاكمتهم. وهو ما يجعل طلب التوقيف التركي أقرب إلى الخطوة الرمزية (التي تستهدف تشديد الخناق على الرياض)، منه إلى التحرك القضائي الجدّي القابل للتنفيذ.
جيمس ماتيس: نحتاج إلى المزيد من الأدلة لمعرفة مَن أمر بالقتل


وفي الإطار نفسه أيضاً، يندرج التلويح التركي المتكرر بالتحقيق الدولي، الذي جدّده أمس وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، أثناء زيارته لبروكسل. إذ قال: «(إننا) لن نتردّد في اللجوء إلى التحقيق الدولي إذا حصل انسداد في مسار القضية»، داعياً السعودية إلى «التحلّي بالشفافية ومشاركة ما يكشف عنه التحقيق»، لافتاً إلى «(أننا) حتى اليوم، لم نتسلّم من السعودية أي عنصر على صلة بالتحقيق». وعلى رغم أن مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشليه، دعت للمرة الثانية على التوالي إلى إجراء تحقيق جنائي دولي في مقتل خاشقجي، على اعتبار أن ثمة «حاجة ماسة» إلى ذلك، إلا أن تدخل المفوضية يتطلّب ـــ بحسب ما قالت باشليه ـــ تفويضاً من الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وهو ما يبدو متعذّراً إلى الآن. لكن عودة أنقرة إلى إشهار عصا تدويل التحقيق، الذي أعلنت السعودية غير مرة رفضها له، ترتبط بمحاولاتها استثمار الدعوات المتزايدة في الولايات المتحدة إلى محاسبة ابن سلمان، من أجل الدفع قُدماً بمساعيها إلى إزاحة الأخير من المشهد.
مساعٍ يعضدها الضغط المتزايد من قِبَل الكونغرس ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي تُوجّ أمس باجتماع في مجلس الشيوخ لبحث العلاقات مع السعودية، وفق ما أعلن رئيس لجنة العلاقات الخارجية في المجلس، السيناتور الجمهوري بوب كوركر. ومن شأن تلك الضغوط أن تضيّق الخيارات على إدارة ترامب، التي بدا وزير دفاعها جيمس ماتيس، في تصريحاته خلال الساعات الماضية، أقلّ حدة مما ظهر عليه في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الشيوخ، بإبقائه الباب مفتوحاً أمام إمكانية إدانة ابن سلمان، على اعتبار «أننا بحاجة إلى المزيد من الأدلة، وسنجدها، لكنني لا أعرف ما ستكون ولا من سيكون ضالعاً، لكننا سنتبعها إلى أبعد ما أمكننا».
وفي انتظار ما سيرسو عليه موقف البيت الأبيض والدوائر الداعمة له، يبدو أن الكونغرس سيحاول الاستفادة من كل العناصر التي يمكنها أن تخدم معركته، بما في ذلك احتمال اتفاق «أوبك» وروسيا على خفض إنتاج النفط، أو الذي جدّد ترامب أمس معارضته له قائلاً: «(إننا) نأمل أن تُبقي أوبك على تدفقات النفط كما هي، ولا تكبحها. العالم لا يريد أن يرى ارتفاعاً في أسعار النفط ولا يحتاج لذلك». لكن وزير النفط العماني، محمد بن حمد الرمحي، أعلن، مساءً، «(أننا) اتفقنا جميعنا ومعنا روسيا على أن هناك ضرورة للخفض». خطوة من شأنها ـــ إذا ما تمّت ـــ أن «تحفّز الديمقراطيين في الكونغرس على السعي بنشاط أكبر صوب قانون نوبك، وسحب الدعم الأميركي للقوات المدعومة من السعودية في حرب اليمن»، وفق ما توقّع جاري روس، أحد مراقبي «أوبك» المخضرمين. والجدير ذكره، هنا، أن «قانون نوبك» المذكور، الذي يناقشه مشرِّعون أميركيون، قد يجعل من الممكن مقاضاة السعودية وبقية أعضاء «أوبك» بدعوى التلاعب بالأسعار.