يبدو أنه لا يزال لدى تركيا الكثير لتكشفه في قضية الصحافي السعودي المقتول جمال خاشقجي. هذا ما توحي به المعلومات المُسرّبة توالياً، تارةً عبر وسائل إعلام تركية، وطوراً من طريق مسؤولين. اللافت في تلك المعلومات، التي عاد ضخّها ليتكثّف منذ المقال الأخير للرئيس رجب طيب أردوغان في صحيفة «واشنطن بوست»، أنها تصبّ جميعها في خانة تحميل مسؤولين رفيعي المستوى في المملكة المسؤولية عن مقتل خاشقجي. وهي مسؤولية لا يزال الأداء الرسمي السعودي يشتغل في اتجاه نفيها، وفق ما تجلّى مجدداً أمس في جلسة «المراجعة الدورية الشاملة» لمجلس حقوق الإنسان في جنيف.وأكد مسؤول تركي، أمس، ما كانت قد نشرته صحيفة «صباح» التركية الموالية، أن السعودية أرسلت إلى إسطنبول، بعد قرابة أسبوع من مقتل خاشقجي داخل قنصلية بلاده هناك، «فريق تطهير» مكوّناً من شخصين، هما أحمد عبد العزيز الجنابي وخالد يحيى الزهراني، لمحو أدلة الجريمة قبل السماح للشرطة التركية بتفتيش المكان. ورأى المسؤول أن إرسال هذين الشخصين (أحدهما كيميائي والآخر خبير في مجال السموم) يشير إلى أن «قتل خاشقجي كان معروفاً لكبار المسؤولين السعوديين»، على اعتبار أن المملكة لم تعترف بالواقعة إلا بعد مرور 18 يوماً من حدوثها (20 تشرين الأول/ أكتوبر، أي في اليوم نفسه لمغادرة الشخصين المذكورين تركيا)، وأنها تعلّلت حينها ـــ في تبريرها كلام ولي العهد محمد بن سلمان عن أن خاشقجي غادر القنصلية بعد 20 دقيقة من دخولها ـــ بأن فريق الاغتيال حاول التستّر على فعلته وتضليل القيادة. ويصبّ حديث المسؤول التركي في الاتجاه نفسه الذي كان قد أشار إليه أردوغان، عندما قال إن أمر اغتيال خاشقجي صدر عن أعلى المستويات في الحكومة السعودية، مُبرِّئاً في الوقت نفسه الملك سلمان من «أي شبهة»، ما عُدّ إشارة ضمنية إلى ولي العهد.
دعت واشنطن ولندن أمس إلى تحقيق شامل وشفاف في الجريمة


إشارة أعاد نائب الرئيس التركي، فؤاد أوقطاي، أمس، التلميح إليها، بقوله لوكالة «الأناضول» الرسمية إن «السؤال الآن هو: من أصدر الأوامر؟ هذا ما نسعى للحصول على إجابته الآن»، لافتاً إلى أن «هناك سؤالاً آخر، هو: أين اختفت الجثة؟ هناك تقارير عن أنها أُذيبت بالحمض. لا بدّ من النظر في ذلك». وأكد أوقطاي أن بلاده تملك مزيداً من المعلومات عن الجريمة، نافياً تستّره عليها، وإن كان قد اعترف بأنّ أنقرة تتشارك تلك المعلومات مع «مؤسسات ودول، في الوقت الذي تراه مناسباً وعندما ترى ضرورة لذلك»، ما يؤكد أن ثمة تكتيكاً سياسياً في نشر المعطيات المتصلة بحادثة القنصلية. هذا التكتيك، على الرغم من أنه بلغ مستويات متقدمة باتت تحيط بولي العهد، إلا أن المملكة لا تزال تجد متسعاً أمامها لتعزيز روايتها بشأن التخطيط والقتل والتستّر من دون أمر من القيادة. وهو ما تواصل أمس مع الإفادة التي أدلت بها المملكة خلال أول مراجعة يجريها مجلس حقوق الإنسان لسجلها منذ خمس سنوات.
وأعلن وفد السعودية الدائم لدى الأمم المتحدة، أمام أعضاء المجلس، أن بلاده تُعدّ مشروع نظام جزائي جديد لمكافحة استعمال السلطة، من دون تفاصيل. ويتّسق إعلان ذلك المشروع مع الأمر الملكي الذي كان قد أصدره الملك سلمان، تزامناً مع الاعتراف بمقتل خاشقجي، بتشكيل لجنة برئاسة ولي العهد لإعادة هيكلة جهاز الاستخبارات. خطوات تستهدف التشديد على أن ثمة مسؤولين (على رأسهم المستشار في الديوان الملكي سعود القحطاني، ونائب رئيس الاستخبارات العامة أحمد عسيري) أساؤوا استخدام السلطة، وخالفوا أوامر القيادة، وأقدموا على قتل خاشقجي. وإلى جانب «التبشير» بالنظام الجزائي الجديد، تعهّد رئيس وفد المملكة، بندر العيبان، بـ«تقديم جميع المتهمين (في قضية خاشقجي) إلى العدالة، وإيقاع العقوبة على كلّ من يُدان بهذه الجريمة». وجاء تعهّده هذا بعدما استمع إلى سيل من الانتقادات والدعوات المطالِبة بتحقيق «ذي صدقية وشفاف» في اغتيال خاشقجي. وكان في مقدمة تلك الدعوات حديث مندوب واشنطن لدى مجلس حقوق الإنسان، مارك كاساير، الذي حضّ على «إجراء تحقيق شامل وحاسم، مع مراعاة الأصول القانونية، ونشر نتائجه علناً»، فيما شدد مندوب بريطانيا، جوليان بريثويت، على ضرورة التأكد من «محاسبة المسؤولين وتطبيق إجراءات تمنع احتمال تكرار الحادثة».