في خضمّ الأزمة التي تواجهها السعودية على خلفية مقتل الصحافي جمال خاشقجي، منحت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، المملكة، جرعة دعم إضافية، مُسبغةً نوعاً من الشرعية على التحقيق المزعوم الذي تقوم به الرياض، ومُتجنّبةً الإفصاح عن أيّ معلومات في شأن اللقاء الذي جمع الخميس الماضي ترامب، بمديرة الاستخبارات المركزية الأميركية جينا هاسبل. صمت يمكن أن يُقرأ فيه تأكيد للانطباع الذي خلّفته التصريحات الأقوى لترامب في هذا الإطار، عندما قال إن خطة قتل خاشقجي «كانت سيئة جداً منذ البداية، ونُفّذت في شكل فاشل، ومحاولة التستّر عليها هي الأسوأ في التاريخ»، ما أوحى بأنه بات لدى الرئيس الأميركي أدلّة على ارتباط الجريمة بـ«أعلى السلّم». وهي نفسها الأدلّة التي أعاد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، التلويح بها، مبدياً حرصه على إبقاء قضية خاشقجي على رأس الأولويات، بعدما بدا أن زخمها تراجع داخل الولايات المتحدة.وتحدّث وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، أمس، بإيجابية، عن اللقاء الذي جمعه بوزير الخارجية السعودي عادل الجبير، على هامش مؤتمر «حوار المنامة» الأمني. وأشار ماتيس إلى «(أننا) تحدثنا عن الحاجة إلى الشفافية وإجراء تحقيق شامل وكامل»، مضيفاً أنه كان هناك «توافق كامل» مع الجبير «من دون تحفظات على الإطلاق. قال إننا بحاجة لمعرفة ما حدث وكان متعاوناً جداً». تصريحات تستبطن ثقة أميركية بالتحقيق السعودي، على رغم أن الروايات الرسمية المتوالية تؤكد أن هذا الأخير ـــ لو تمّ فعلاً ـــ لن يأتي بجديد، مخالف لما تتمسّك به الرياض من أن المشتبه بهم خطّطوا ونفّذوا وتستّروا «من رأسهم». وهي نتيجة يبدو إلى الآن أن الولايات المتحدة تدفع باتجاه تكريسها، محاوِلةً الإبقاء على ما يخالفها في دائرة «المستور» وفق ما ألمح إليه مجدداً وزير الدفاع الأميركي. إذ أجاب ماتيس، سؤالاً عن مدى إمكانية توصّل التحقيق إلى دور لولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الجريمة، بالقول إن «تركيا ستتوصّل، من خلال ما تجمعه من أدلّة، إلى أن هناك أكثر من تحليل حول ما حدث»، مُلمّحاً بذلك إلى أنه بمقدور أنقرة استبعاد الأدلة «الخطرة»، والإبقاء على تلك التي لا تقطع شعرة معاوية مع الرياض.
لكن تركيا، وعلى رغم تراجع تسريباتها الإعلامية في شأن قضية خاشقجي إلى حدّ كبير، لا تظهر راضية عن الأداء الأميركي في إدارة «المفاوضات». إذ إن رئيسها يكاد لا يفوّت مناسبة إلا ويعيد فيها التذكير بما تمتلك بلاده من معطيات، بات واضحاً أنها تتمحور حول نقطتين: مصير جثة خاشقجي، وصدور أمر اغتياله من مستويات أعلى مما أشارت إليه الرياض وواشنطن. وهو ما أعاد أردوغان التشديد عليه أول من أمس عقب القمة التي جمعته بنظيريه الروسي والفرنسي والمستشارة الألمانية، حيث جدّد مطالبته السعودية بالكشف عمَّن أرسل المشتبه بهم الـ18 إلى إسطنبول، وكذلك هوية المتعاون المحلي الذي تقول المملكة إن الجثة سُلّمت إليه. وأشار أردوغان إلى أن «السعودية سترسل مدعيها العام غداً (أمس) إلى هنا، وسيلتقي والوفد المرافق له مدعي عام إسطنبول، ونولي أهمية لنتيجة هذا اللقاء». ويلتقي المدعي العام السعودي، سعود المعجب، نظيره التركي، عرفان فيدان، صباح اليوم، بعدما وصل أمس إلى إسطنبول.
أشاد عادل الجبير بالعلاقات مع أنقرة واصفاً تركيا بـ«الدولة الصديقة»


ومن غير المعلوم ما إذا كان المعجب مُحمّلاً برسائل من قيادة بلاده، لكن رسائل «غزل» إضافية بعث بها المسؤولون السعوديون إلى الأتراك خلال اليومين الماضيين. إذ وجّه الملك سلمان وابنه محمد، أمس، برقيتي تهنئة إلى أردوغان بمناسبة ذكرى تأسيس الجمهورية التركية. وقبلهما، أشاد وزير الخارجية عادل الجبير، في كلمته أمام مؤتمر «حوار المنامة»، بالعلاقات مع أنقرة، قائلاً إن «تركيا دولة صديقة، ولدينا علاقات تجارية واستثمارية جيدة معها». وعلى رغم أن الجبير رفض طلب تركيا محاكمة الموقوفين السعوديين على أراضيها، إلا أنه لم يغلق الباب على إمكانية استجابة الرياض للتنازلات التي قد تكون مطلوبة تركياً. في هذا الإطار، ربما يعتقد المسؤولون السعوديون أن تخفيف حدّة لهجتهم تجاه قطر سيكون مفيداً لهم، وذلك ما يفسّر إشادة ابن سلمان «المباغِتة» بالدوحة في مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، وأيضاً تراجع الجبير عن «عنجهيته» المعهودة في الحديث عن القطريين، حيث قال إن التنسيق العسكري مستمرّ معهم، وإنهم سيكونون جزءاً من تحالف «الناتو العربي» الذي تعمل واشنطن على تشكيله. ولم ينسَ الجبير طرح المقتضيات اللازمة لبلورة «صفقة» ما مع أنقرة، مشيراً إلى أن «التحقيق سيستغرق وقتاً»، ما يفسح المجال أمام الأخذ والردّ السياسي. كما جدّد التذكير بموقع بلاده من «الحرب» على إيران، واصفاً العلاقات مع الولايات المتحدة بـ«الصلبة والثابتة»، وسياسة إدارة ترامب بـ«المتعقلة والواقعية».
وصف لا يبدو مستغرباً بالنظر إلى هشاشة «التأنيب» الذي وجّهه ماتيس إلى السعوديين، مستخدماً الكثير من «الإنشائيات» في حديثه عن مقتل خاشقجي، ولافتاً إلى أن «وزير خارجيتنا... سيتخذ إجراءات إضافية مع اتضاح الموقف». في المقابل، استعرض الوزير الأميركي، قائمة طويلة مما سمّاها «السلوكيات الإيرانية المدمّرة»، مؤكداً للحلفاء «التزامنا الطويل والثابت والشفاف» إزاء المنطقة، ما ينبئ بأن الولايات المتحدة لا تزال تضع هدف مواجهة إيران على رأس أولوياتها، وأنها لا تجد أفضل من الخليجيين بيادق في معركتها هذه. ومع ذلك، لا يبدو أن قضية خاشقجي ستمرّ من دون تداعيات سياسية، ولعلّ تشديد الوزير الأميركي على ضرورة «تسوية الجدال الداخلي بين شركائنا» و«إنهاء الحرب في اليمن» يُعدّ مؤشراً جديراً بمراقبة مساره في المرحلة المقبلة.